تحية فنية لروح طاهر بني.. لوحات تستعيد مستقبلها الرمزي

حلب-غالية خوجة

اشتهر التشكيلي الحلبي طاهر بني (1950 – 2019) بعدة ثيمات موضوعية وفنية في أعماله المتنوعة، وأهم ما تمحورت حوله أبعاد اللون وفراغات اللحظة وكتلتها المكانية معبّراً عن المحلية والإنسانية من خلال الذاكرة التراثية والمخيلة المضافة لهذه الدلالات المتشابكة المنتجة للغة بصرية تحكي عن حلب وأهاليها بألوان مائية وزيتية مشوقة، واقعية رومانسية وتعبيرية سحرية وطبيعية وفانتازية.

رمزية المكان

ولنبدأ رحلتنا بلوحة طاهر بني التي جاءت رمزاً لهذا المعرض الجماعي، وخلفية لبروشورهِ الإعلاني، المؤلفة من أنثى حلبية تتمركز اللوحة بملامحها المشرقة بجمال شرقي، ونظرتها العميقة المحدقة في كل من الفنان والمتلقي واللحظتين الداخلية والخارجية، جاعلة من الصمت لغة تتسرب من الشبكة الدلالية المتكاملة للوحة وألوانها الهادئة، وعناصرها المكانية ضمن مشهد بانورامي لأهم معالم مدينة حلب أولها القلعة المشكلة خلفية واقعية للوحة، وخلفية رمزية لبطلة اللوحة التي تسبقها باقة ورود في جرة فخارية.

إحساس ثلاثي الأبعاد

ولمزيد من الإضاءة على سيرته وأعماله، احتفت حلب بذكرى الحركة التصحيحية من خلال معرض جماعي بعنوان “تحية لروح الفنان طاهر بني” في صالة الأسد للفنون الجميلة، بمبادرة جمعية أصدقاء فتحي محمد للفنون التشكيلية بالتعاون مع اتحاد الفنانين التشكيليين، شارك فيه 30 فناناً من حلب وسورية وعدد من الفنانين السوريين المغتربين.

وعن هذا المعرض قال التشكيلي إبراهيم داود أمين سر اتحاد الفنانين التشكيليين: عرفت طاهر بني منذ عام 1970 وكان متفوقاً في الرسوم المائية ذات الشفافية العالية، ثم قدم في مرحلة أخرى أعمالاً بالألوان الزيتية لشخصيات من التأريخ والحارات الشعبية والأساطير، ورسم حلب التي يحبها بإحساس زماني ومكاني ووجداني، كما ألف مجموعة من الكتب الفنية السورية ليرفد الحركة التشكيلية السورية.

وأضاف: قدم طاهر بني للوطن أعمالاً إبداعية على مدى 50 عاماً من الفن الذي جذبه منذ طفولته ليبتعد معه إلى عوالم تشكيلية تعتبر من ذاكرة حلب المتناغمة مع الكثيرين، منهم وحيد مغاربة، لؤي كيالي، سامي برهان، فاتح المدرس، فتحي محمد، شريف محرم.

الصمت يتألم ويتكلم

لكن، ماذا عن لوحة إبراهيم داود “الصمت” المشاركة في هذا المعرض؟

رغم صمتها، ووضعها سبابتها على فمها المغلق، نلاحظ أن ملامح المرأة التي رسمها إبراهيم داود تتكلم عن شيء ما، تبوح بأمر ما، وتطلب منك إذا سمعته وفهمته أن لا تتكلم عنه، لأنها تخاطبك بتلك الإشارية طالبة منك أن تصمت، فهل ستفعل ذلك؟

بالطبع، لن تصمت، لأنها جعلتك تبحث عن المسكوت عنه الذي في قلبها وقلب الفنان، وتجذبك بشوق لهذا الاحتمال لتكتشف من حركة اللون الأخضر وتدرجاته وحركة عينيها وملامحها التعبيرية الكلام والأحداث والحكايات الصامتة.

منحوتات فراغيّة من الزيتون

وأكد الفنان النحات عبد القادر منافيخي أن مشاركته بمنحوتاته اليدوية بخامتها الخشبية من شجر الزيتون تتفرع من تشكيلات الخط لتمنح أبعاداً جمالية للدلالة منها منحوتة حلب -سورية، التي تقرأ أيضاً “سورية- حلب”، وتوحي من زاوية مشاهدة أخرى بأنها الأم التي تحمل الأرض والألم والعمل، ومنحوتة “أسماء الله الحسنى” ومنها اسمه تعالى “العدل” المتناغمة بإتقان دلالي وتقني، لتحكي عن العدالة الإلهية المطلقة من خلال توازن تشكيلي متناظر، وتكمل هذه الأعمال منحوتة “الأمومة” التي تحول خشب الزيتون إلى أم تغمر أولادها بالحنان وتدافع عنهم بحيوية وإيمان.

وللمتأمل في منحوتات منافيخي أن يكتشف كيف تتحول الحروف المنحوتة إلى أشكال مختلفة تبعاً لزاوية التأمل، لتتشكل شخصيات، وتضاريس فنية، وتداخلات متشابكة بين الكتلة والفراغ، مما يجعلها متحركة في التكوين ثابتة في المكان، تعتمد الزمن العمودي وهو يرتفع مع الأشكال، بما يوحي بحالة من الصعود إلى الأعلى والأعماق لتستكمل المنحوتة أبعادها وظلالها، وكأنها تدعونا لمشاهدة الجزء الآخر منها المتشكل في الفراغ لكنه غير منحوت، وهذا جزء من عملية اشتراك المتلقي مع الفنان في العملية الإبداعية.

شبحان وقناص

بينما أخبرنا التشكيلي بشار برازي كيف يعيد الاستذكار للفنان سيرته الحياتية واللونية لتظل على مدى الأجيال، وكيف تجدد المعارض الجماعية اللقاءات والحوارات، وحكى عن لوحته الموشحة بأثر القناص ودخان القذائف وكيفية نجاة الشخصين من فوهة القناص.

والملفت في هذه اللوحة أنها تختصر مقولات كثيرة منها: احتمالية النهاية المفتوحة لمصير الشبحين المتحابين، المتفائل بهما البرازي لأنهما يؤكدان أن الحب ينتصر دائماً حتى في الحرب.

نزهة لونية

ولأن الفنون بمختلف أشكالها منتصرة أيضاً في الحروب، نلاحظ ونحن نعبر إلى لوحات أخرى منها لوحة للتشكيلية الشاعرة لوسي مقصود التي تركت لتفاحتها جاذبية نيوتن لتقف على الخطوط العمودية الحمراء والأرجوانية وتدرجاتهما المنسحبة إلى الهامش الأيسر من اللوحة النازح إلى الأسود والرمادي بما يشبه الصليب كإشارة إلى المعاناة الداخلية بألوانها  المشكلة للعديد من الشخوص والهياكل الحالمة بلحظات حياتية يومية مستقرة.

معزوفة

بينما تبدو لوحة التشكيلي خلدون الأحمد تنشد ما يجول في الدواخل مع علاماتها ومفرداتها التي عنونها بـ(العزف بالألوان)، لتسافر بالمتلقي إلى فضاء من التفاؤل الممتزج بانفتاح لوني على الغيم وزرقة السماء والذات والآخر.

الألوان تصغي للحروف

ولا يتوانى التشكيلي أحمد قاسم عن الارتحال مع خطوطه وتشكيلاته إلى سحرية الخط، وموسيقية الحرف، وتشابك الدلالات والمفردات، لتكون لوحة خطية وتشكيلية وتجريدية ورمزية في الآن الفني معاً، مما يجعلنا نصغي للكلمات وهي تصغي إلينا، لتبدأ القصة من الألوان والظلال والصدى داخلة بوابة النهايات المتوقعة وغير المتوقعة.

تحولات إيقاعية

ويحتفي المعرض بالفنان وحيد مغاربة وبأسلوبيته التي احتفت بها حلب ومنها معرض خاص بذكراه، خصوصاً وأنه يروي تحولات اللون وموسيقية اللحظة والمعاناة الإنسانية والأمل المتسع، التي نلمحها في لوحته المعروضة مع اللوحات المشاركة وهي تحيي طاهر بني مع خلفية موسيقية حية قدمها العازف محمد سميح كور وصافي فديوي تنوعت بين القدود الحلبية والموشحات والأغاني العربية.