ست وثمانون شمعة لفيروز
تسلك كالرحيق مجرى الدم، وتغمر القلب بدفء حنانها، لينبض حباً وسلاماً.
هي البداية ومتعة الإشراق مع أول رشفة قهوة تعلن انطلاقة الصباح.. فهل سألتم رقرقة الجداول وحفيف الأشجار عن طيب النغم؟. وهل سألتم نسمة الصباح وتلويحة القبس التي تتماهى مع مقامات ملوّنة بالسمو تعانق نجمة الصبح كأفئدة أعلنت احتضان الآه وانسياب اللحن في أبهى مقام؟.
هي فيروز.. الطفلة في ربيعها الخامس التي خلب صوتها أقرانها ومعلميها، فإذ هم في غمرات وسكرات. هائمون في بحار رحيقه، فكان لها أن دخلت عالم الموسيقا من أوسع أبوابه، وتشرّبت ألحانها ولفظتها خيوطاً ذهبية تلتفّ بنعومة حول سامعها وتأسره، فلا هي تفلته ولا هو يروم الانعتاق.
وفي ربيعها الخامس عشر وقفت أمام لجنة من كبار الملحنين والموسيقيين، فأيقظت في نفوسهم عاطفة الأبوة، واحتضنوها ومهدوا لها طريقاً معبداً بالنجوى والهيام، لتحلق إلى أعلى نبض في دقات قلوب أعلنت بوحها الأزلي.
حين سئل الفنان الكبير عبد الوهاب عن ألمع الأصوات، لم يذكر فيروز واستفاض في الحديث عن قامات الغناء العربي، ما جعل علائم الدهشة ترتسم على وجه محاوره، الذي سارع باستهجان إلى الاستفسار عن هفوته وزلته، فما كان منه إلا أن أجاب: “سألتني عن أصوات البشر، ولم تسألني عن أصوات الملائكة”.
واستقبل ربيع عام 1950 أولى زهراتها التي عبقت بحروف وأنغام خطّها كبار الملحنين والشعراء، فطابت لكل الأذواق، وشقّت طريقها إلى كل الآذان، وكسرت الحدود وقهرت القيود وعبرت الأجيال، وجمعت العرب على محبتها، لا بل تجاوزتنا لتعمّ العالم أجمع، فتشرفت أعظم مسارحه بأن وطئت قدمها على خشباتها، من قاعة ألبرت الملكية في لندن إلى قاعة كارنيغي في نيويورك.
وما لبثت أن أمست رمزاً وابتهالات وطقوس خلاص روحي، وهي التي قالت يوماً: “إن نظرتم إلى وجهي حين أغني، فسترون أني غير حاضرة.. وأرى الفن كالصلاة مع أني لست في كنيسة، وأشعر كما لو أنني فيها”.
غنّت للبنان وللشام ولفلسطين، ولقبت بسفيرة النجوم، وغنّت للقمر فاشتهرت باسم جارة القمر، وعندما غنّت في مهرجان بعلبك الشهير لقبت بعمود بعلبك السابع، وعلا شأنها درجات حتى اكتسبت بجدارة اسم روح لبنان.
فيروز أنت وطن بحدّ ذاته، وأنت من رسمت التضاريس بعفوية وحب، فكنت الأغنية التي حولت رمالنا المتثاقلة إلى واحة غنّاء ومنارة يهتدي إليها كل باحث عن شعاع أمل ووجد..
إلى فيروز.. نبثّ عبر أثير الشوق ومباهج عمرنا الباقي أحلى رسالة امتنان ومباركة في عيدك السادس والثمانين.
علاء العطار