الديمقراطية الأمريكية.. في الشكل فقط!
عناية ناصر
بينما تعقد الرئاسة الأمريكية “قمة القادة من أجل الديمقراطية” الشهر المقبل، يمكن القول الآن وداعاً للديمقراطية في الولايات المتحدة، لأن جرس تفكيك الديمقراطية الأمريكية يُقرع الآن، إذ يشير الخلل الحكومي وشلل الكونغرس وقمع الناخبين، والاستقطاب السياسي، إلى أن الديمقراطية الأمريكية ما هي إلا مجرد دعاية، أو بالأحرى، إن صحة النظام الأمريكي أسوأ مما تبدو عليه.
في الولايات المتحدة، “منارة الديمقراطية” تضيء فقط لطبقة تخدم مصالحها وتوحّد الثروة والسلطة، و0.1 في المائة من أغنى الأمريكيين يمتلكون تقريباً القدر نفسه من الثروة، مثل 90 في المائة الأدنى، حيث يمتلك أغنى 10 في المائة من الأمريكيين نحو 89 في المائة من الأسهم، وصناديق الاستثمار المشتركة في الولايات المتحدة في الربع الأول من عام 2021. وفي الوقت نفسه، ووفقاً لبيانات بنك الاحتياطي الفيدرالي، تمتلك 50 في المائة الأدنى من الأسر الأمريكية نحو 0.5 في المائة. خلال جائحة كورونا، انتظر عدد لا يحصى من المرضى بفارغ الصبر الحصول على أسرّة في المستشفى، ومات أكثر من 760.000 أميركي نتيجة اليأس.
منذ حوالي قرن من الزمن، حذّر قاضي المحكمة العليا لويس برانديز بالقول: “قد تكون لدينا ديمقراطية، أو قد تتركز الثروة في أيدي قلة قليلة، لكن لا يمكننا الحصول على الاثنين معاً”. لقد أثبت تحذير برانديز صحته، لأن النظام التمثيلي للديمقراطية الأمريكية، المصمّم كضمان للناس للتعبير عن آرائهم، ليس له الآن علاقة تذكر بأبناء الشعب، الذين يشكلون الجوهر الحقيقي للديمقراطية، فقد انحدرت الديمقراطية الأمريكية إلى ديمقراطية في الشكل فقط، ولم يعد الشعب الأمريكي “موضع اعتزاز” إلا خلال موسم الانتخابات، لكنه يترك في العراء بعد ذلك دون وصول كبير إلى الشؤون السياسية الوطنية.
إن نظام الديمقراطية الأمريكية متعدّد الأحزاب، المصمّم كضمان لتقييد السلطة السياسية والحدّ من الفساد، يعيق الآن بشكل مدمّر كفاءة الحكومة وفعاليتها. كان جون آدامز قلقاً ذات مرة من أن “تقسيم الجمهورية إلى حزبين كبيرين.. يجب أن يكون مرعباً على أنه الشر السياسي العظيم”. اليوم، الحزبان منقسمان لدرجة أنهما غالباً ما يختلفان من أجل الاختلاف فقط. وما هو ظاهر في مبنى الكابيتول الأمريكي يثبت أن النتيجة يمكن أن تكون مدمّرة للغاية عندما يواجه الاستقطاب نظام الضوابط والتوازنات الأمريكية في أمريكا.
إن نظام التصويت في الولايات المتحدة، المصمّم كضمان لحق كل مواطن بالغ في التصويت، بغضّ النظر عن عرقه وجنسه وممتلكاته، هو الآن المظلة الواقية والتي تحمي المستفيدين. بمعنى تحوّلت الانتخابات المختلفة في الولايات المتحدة إلى “استعراض” بين مشاهير الإنترنت، ما يعني أن أي شخص يمكنه رفع المزيد من الشعارات وجذب المزيد من انتباه الجمهور، وستكون لديه فرصة أكبر لجعل مقترحاته السياسية مسموعة. وراء هذا السباق، رأس المال الداعم هو من يدفع فاتورة حملة المرشحين، والسياسيون الذين يتمّ انتخابهم سوف يسدّدون لموقعي الشيكات الخاصة بهم. “شخص واحد، صوت واحد” مآله “لا مال لا أصوات”.
إذن التاريخ يعيد نفسه في كثير من الأحيان بطريقة مماثلة بشكل لافت للنظر، فقد استمرت الديمقراطية 250 عاماً في أثينا القديمة حتى ترسخ الامتياز والفساد وسوء الإدارة. واليوم تقترب الديمقراطية الأمريكية، التي يراها الكثيرون على أنها التجربة الديمقراطية الثانية، من 250 عاماً، وهي مريضة للغاية، فعمودها الفقري مشوّه لأنه لم يعد يتحدث عن الناس. ويتمّ تدمير الأعصاب لأنها تفشل في حلّ المشكلات الحقيقية، والعظام تتصدع لأن الفقراء ليس لهم رأي في العملية السياسية.
الحقيقة أن “قمة الديمقراطية” القادمة لواشنطن لا علاقة لها بالديمقراطية، إنه فصل ديمقراطي يقسم العالم بين “أمريكا والآخرين”، إنه جزء من الحرب الباردة الجديدة، التي تشنّ بشكل أساسي ضد روسيا والصين، كما أنها لا تسعى إلا إلى المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة والهيمنة العالمية. لكنه أمر مثير للسخرية أن تأمل ديمقراطية تحتضر في إعادة تنشيط الديمقراطية العالمية، لذلك سيكون من الأصح أن نقول إن “قمة الديمقراطية” لـ بايدن هي المحاولة الأخيرة لإنقاذ الديمقراطية المحتضرة في الولايات المتحدة، تماماً مثل رجل لا يحظى بشعبية ينتظر من الناس منحه المديح الأخير، أو مريض يحتضر بانتظار رصاصة الرحمة!.