من أشعل “الضوء الأصفر”؟!
أحمد حسن
قد يبدو الربط غريباً وبعيداً بعض الشيء، لكن التاريخ، كما نعرف، لا تحركه الصدفة؛ والسياسة، في أحد تعريفاتها أو تجلياتها، هي الاقتصاد مكثفاً، لذلك يمكن لنا النظر إلى الإعلان عن عقد المؤتمر الرابع للاتحاد العربي للمدن والمناطق الصناعية نهاية الشهر الجاري في دمشق، على أنه، وعلى غرار ما سبقه (الاحتفاء الجميل والدال بسورية على هامش، “اكسبو دبي 2020”) يشير بما لا يدع مجال للشك، أن “الرمال في المنطقة تنزلق من تحت أقدام واشنطن”، بحسب تعابير الكاتب والباحث الأمريكي سيث فرانتزمان.
الرجل أطلق مقولته هذه بناء على متابعته لنتائج وتبعات “الانسحاب الأميركي المشوّش والفوضوي من أفغانستان، واتفاق سحب القوات الأميركية من العراق، والضغط على السعودية للتوصّل إلى إنهاء الحرب في اليمن”، وهي تبعات تمثلت أولاً، بتراجع “الثقة العربية بالمظلة الأمريكية” على ما قال آخر، وبالتالي بدء البحث عن خيارات أخرى، أو بدء التمرد، ولو المضبوط حالياً، على سطوة ساكن البيت الأبيض.
وبغض النظر عما يريده فرانتزمان – الرجل قال ما قاله تحذيراً لبلاده ومحاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه – فتلك حقيقة أصبحت جليّة أمام الجميع، لكن – وكما هو تاريخ بروز كل الحقائق – لا يستطيع البعض، أو لا يريد، “هضمها”، فالاعتياد على العيش في ظل عبودية القرار الخارجي، الأمريكي تحديداً، يجعلهم أعداء “طبيعيين” لها، لذلك خرجت أصوات “عربية” تتحدث عن ضوء أصفر أمريكي للانفتاح على دمشق، وعن شروط والتزامات وصفقات وأوامر تقف وراء ذلك كله.
والحال فإن الأمر كان ليكون مفهوماً لو أن هذه الأصوات صدحت بمنطق التحليل الهادئ والبارد والعقلاني لطبيعة العلاقات الدولية وقراءة تحولات القوة وانعكاسات صراع الإرادات وتصادم المشاريع على أرض الواقع المجرد، لكنها مقولة أُطلقت بهدف واحد: محاولة التقليل من حجم ما يحصل بالقول إنه يتم برعاية واشنطن وإرادتها ولا شيء آخر، وبالتالي محاولة مداراة خيبتهم من “تاريخ” طويل من العبودية قدموا فيه كل شيء لها وها هم يخشون أن يدركهم شيء من “اللعنة الأفغانية” حيث “دواليب” الطائرات المغادرة هي المكان الوحيد لمن يصدق ويصادق “العم سام”.
وبالطبع يمكن القول إن هناك ضوءاً أصفر أمريكياً، فتلك حقيقة لا يمكن نكرانها في عالم شرعة الغاب هذا، لكن ما يُفترض بهم بحثه هو سبب تحول هذا الضوء من الأحمر إلى الأصفر، كما يُفترض بهم أيضاً النظر إلى توقيته، وفي هذين الأمرين عليهم البدء بقراءة دقيقة للوضع الداخلي للإمبراطورية كما لموقفها الخارجي من الصراع الضاري على قمة العالم وأخذ ذلك كله بعين الاعتبار والتحليل، وهنا يجب التأكيد على حقيقة، وأحقية، “اللحظة السورية” في المساهمة في صنع ذلك كله.
وبالتالي، يجب وضع الصمود السوري خلال السنوات السابقة في سياقه الطبيعي من هذه المواجهة الحادة، والاعتراف، تالياً، بدوره الرئيس في إشعال هذا “الأصفر” من قاعات البيت الأبيض، وبالتالي في دفع دول عربية كانت، ولا زالت، منضوية ضمن المشروع الأميركي، لمراجعة سياساتها اتجاه سورية تحديداً، والانتقال، ولو الهادئ والبطيء، من “لغة” و”لهجة” “جامعتهم” الشهيرة – والمسيئة لهم وللنظام العربي بمجمله قبل أي أحد آخر – عام 2012 في محاولة لنبذها وحصارها الكاملين، إلى القدوم إلى “مرابعها” لطرح آخر “التطورات في مجال التعاون الاقتصادي بين الدول العربية”، وتلك جملة دالة، بعبارتها وجوهرها، على “السياسي”، باعتبار ما سلف: “السياسة هي الاقتصاد مكثفاً”.
خلاصة القول، هذه رياح جديدة على المنطقة، تهب بجناحين دولي، بانعاكاساته وخياراته، ومحلي بدوافعه وتضحياته، ومهما كانت اتجاهات الخارج ودوره واستفادته من هذه الرياح في مشاريعه، فإن دمشق كانت، بدماء أبنائها، من صنّاعها، وبالتالي فإن الأس والأساس في دوام الاستفادة المثلى منها هنا في الداخل، وهذا مكان المعركة القاسية المقبلة.