مكتبة الوقت
غالية خوجة
قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه”، وذلك لأهمية الوقت وقيمته المرتبطة بالإنجاز والعمل.
كثيرة هي الحكم والأمثال المتعلقة بالوقت، مثل قول الحسن البصري: “يا ابن آدم إنما أنت أيام”، وقول مكسيم غوركي: “الكتب سلّم التقدم البشري”، ومثل: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”، والمشكلة أن البشرية المعاصرة حملت السيف ونسيت الوقت، وهذا يعني أن الوقت يمر بشكل معين، قد يشبه دائرة “الأوروبورس” الأسطورية، المتخذة لهيئة أفعى، ذيلها في فمها، ما يجعل الوقت دائرة مغلقة ومحدودة تشبه التصور لكروية الأرض وحواف الكون، لكنها ليست دائرية مغلقة، ولا اهليلجية بالنسبة لمبدأ النسبية، ونظرية التمدد المستمر لحواف الكون اللامحدود.
لذلك، هناك وقت آخر للوقت، قد يكون نفسياً، اجتماعياً، تأريخياً، وجودياً، افتراضياً، فلكياً، كونياً، علمياً، لغوياً، موسيقياً، لونياً، دلالياً، أفقياً، عمودياً، احتمالياً، حلزونياً، وهذا الوقت الحلزوني أقرب ما يكون إلى الدائرة المفتوحة المتسلسلة عمودياً باتساع لتشمل تنويعات الوقت وإيقاعاته المختلفة، بإضاءاتها وظلالها، بأصواتها وصمتها، بسكونها وفواصلها، بمتونها وهوامشها، وبتفاصيلها بين الأرض والسماء والكواكب والمجرات والكون والفضاء، بين النص المكتوب والنص اللامكتوب، ما يجعلنا ندرك أن الارتفاع عن الأرض والسفر في مجالها الفضائي لابد أن يكون حلزونياً، وهذا ما أثبته العلم، مؤكداً على ظاهرة علمية حدثت قبل 1443 سنة هجرية وهي “الإسراء”.
ضمن هذا البعد الحلزوني، قامت الصين بتطبيق هذا البعد للوقت في إنشاء مكتبة ثقافية فنية علمية تأريخية أشبه بلوحة حلزونية سوريالية توحي للزائر بأنها تعبر به المكان والزمان بدءاً من المدخل المزين بطاولة عرض وسط المكتبة تشير إلى الوقت وهو يتحلزن مع الدرج المتحلزن الحاضن لأرفف من الكتب الورقية فُهرست تبعاً لتأريخها وأزمنتها، تؤثر في الزائر الصاعد لهذا الدرج الحلزوني بتشكيلاته الفنية المتناغمة مع تشكيلات “الدرابزين”، وصولاً إلى الساحات المخصصة للأطفال وتناول المشروبات، وانتهاء بقاعة القراءة في الأعلى.
وهناك، من الممكن للناظر، ومن زاوية معينة، أن يكتشف كيف تشكّل هذه المكتبة المتحلزنة ساعة كبيرة أشبه ما تكون بساعة سوريالية، عقاربها تتشكّل من “الدرابزين” الدائرة حول مركزها في المدخل المؤلف من طاولة العرض والوقت، بينما تبدو المكتبة المتحلزنة وكأنها رف كتب تمر من خلاله الحقب والعصور، فتبدو الكتب درجات تأريخية، وتبدو الأرفف سلماً للوقت بالثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور والسنين والقرون، خاصة أن واجهة المكتبة الزجاجية تشف عن حلزونيتها ليراها المارة، مكتشفين روعة التصميم، متشوقين لمعرفة ما يخبئه الوقت بين صفحات الكتب الورقية في زمن طغت فيه وسائل التواصل الاجتماعي حتى على القراءة الالكترونية.
فإذا ما تخيّلت نفسك أحد المارة أو الزوار، فلابد أن تشرد بعيداً في الأعماق متسائلاً عن أثرك الذي سيبقى مع الوقت؟ وما الذي يشكّله من هذا الوقت؟ مضيفاً: كيف لي أن أستفيد من تجارب الآخرين في عمري القصير جداً بعمر الوقت؟ وهل أستطيع أن أكون عبقرياً عندما أستفيد من تجارب الناس والزمان؟ وهل أكون مبدعاً عندما أكون قد استوعبت تجارب هذا الوقت بكتبه وحياتها المضافة لحياتي؟ وما الذي سأضيفه من عمري المحدود لكل هذا الوقت؟ هل أستطيع أن أضيف ثانية واحدة من الوقت لمكتبة الوقت بعلمي وعملي وعقلي وفكري وثقافتي؟.
ترى، هل لدى كل منا مكتبة للوقت في أعماقه وقلبه وروحه؟ وماذا يفضّل أن يقرأ منها عن ذاته وحياته وسيرته قبل أن يفوته الوقت، أو يصبح وقتاً بلا وقت؟.