جنود في الظل
البعث الأسبوعية – رامز حاج حسين
قال بابلو بيكاسو: كل طفل فنان، المشكلة هي كيف تظل فناناً عندما تكبر.
تنسيق المنزل والحديقة الملحقة به كان طقساً سورياً تعبدياً ونبيلاً منذ الأزل، أي منذ نزلت قافلة الحضارة على تجمعات الأنهار والبحيرات في هذه الأرض البكر وبَنت أولى معالم المدنية ومجتمعات الزراعة والصناعة الأولى، فكان الآراميون والكنعانيون وسكان هذه البقعة من الكون سادة الفن والرقي والهندسة البصرية الجميلة، ترى ذلك في كل مايحيط بك وأنت تتأمل آثارهم وبنيانهم المعماري وجدران المعابد والأضرحة والنحت والتماثيل، كان الفن نسغ كالدم يجري في عروق السوريين، والتنسيق البصري الجمالي فن يورث، أو يتم قسراً نقله عبر الجينات في تلافيف العقل الواعي والصاحي، الظاهر والباطن للسوري، إذ قلما تجد طفلاً سورياً لا يتقن فن تنسيق المفردات، إيقاع وموسيقى، رسوم وألوان، كتل ومنحوتات، وعدد ما شئت من مفردات التفنن بالجمال.
الجمال صنعة السوريين منذ الأزل، عجينة تشبه الصلصال الطري المندّى بالماء ين يدي عامل الفخار وهو يديره على عجلته الخشبية ليصنع منه التحف، أو عجينة الرمل المغلي لدرجة انصهار ليتحول إلى زجاج ملون ومشكل بأبهى حلل الفن الرفيع لتلك الصناعة، والأرقشة والتصديف والموزاييك والأرابيسك والتطريز، لن تجد بيتاً سورياً نجا من حمى الفن مهما كانت زاوية تموضعه على الأرض السورية.
هذا التمهيد للحديث عن فئة من المبدعين قلما تظهر للعلن في مجال صناعة ثقافة الأطفال، مهندسو الجمال في الكتب والقصص والمجلات الطفولية السورية، مخرجو تلك التحف، المخرج (المصمم الفني) المتعارف عليه بأنه رجل تقني يتقن برامج التصميم الإعلاني والفني الإلكترونية لتنسيق النصوص بأنواع خطوط معينة مع الصور واللوحات المرافقة لهذا النص، والكثير يكون بالفعل عامل تقني وحسب، ولكن في مجال الطفولة فإن المطلوب أكثر بكثير من مجرد إتقان البرنامج الحاسوبي وتنسيقاته، المطلوب استحضار تلك الجرعة العالية من فن التنسيق والمواءمة الفنية السورية التي ذكرناها، كعامل الحدائق الفنان الذي يعرف كيف يقلّم الشجيرات وبأي نوع من الأزاهير يجب عليه أن يبذر هذا الحوض أو ذاك، مخرجو مجلات وكتب الأطفال في سورية للأمانة لا يتلقون التنويه والرعاية والتقدير المناسب لما يقدمونه من فن من نوع خاص، فيكونون في الأنشطة والترويج واللقاءات والتغطيات الإعلامية عن المنتج مجرد اسم عابر، جنوداً مجهولين للعامة، رغم أنهم من وجهة نظري يقومون بالدور الأجمل والأجّل في إخراج هذا المنتج للعلن، ويجب على الجهات الراعية والداعمة منحهم كل الثقة والدعم والعناية كأي فرد من أفراد المنظومة الفنية للمنتج من كتاب ورسامين.
كما أنه يجب تطوير هذا الفن وإيلائه كل التقدير والاهتمام، لعمل الورش والدورات التدريبية وإقامة الندوات التعريفية به، ومن ثم إيجاد سوق خاص للترويج لبضاعة الموهوبين الجدد القادمين لهذا المجال، فلولا جهودهم وتعبهم وفنهم النبيل ماكانت خرجت للنور مجلاتنا الطفولية الحبيبة على قلوبنا (كأسامة وشامة والمهندس الرقمي الصغير وشام الطفولة) ولا باقي الصحف والمجلات التي تعنى بمواضيع تهم الكبار، وهذه المجلة (البعث الأسبوعية) التي تطالعونها الآن بطلها واحد من أولئك الأشخاص المجهولين.
نحن بحاجة لتطوير كل مجالات الفن في حياتنا كسوريين، كل أنواع الفنون أبوها وأمها وبقية أفراد العائلة، بلا استثناء، وبما أن مجموعة هذه المقالات كانت تنتهج الحديث عن ثقافة الطفل فقط، فنحن هنا نتحدث عن كل ما يتعلق بفن الأطفال من زواياه المختلفة، تطوير أدواته، دعم صناعه، الارتقاء به إلى مصافي الفنون العالمية الحديثة والسير بركب التقانات الحديثة، فكل ما يحيط بنا بحاجة إلى كمية كبيرة من الفنانين لنستمتع ولو قليلاً بالحياة، ونورثها لأطفالنا نقية جميلة كوجه بلدنا الأم سورية.
يقول سيغموند فرويد: لعل الاستمتاع الفني هو قمة اللذات المتخيلة، ومن خلال الفنان يتيسر تذوق الأعمال الفنية لمن لا يستطيعون الخلق ولا الإبداع، ولا يقدر الناس الفن كمصدر من مصادر السعادة والعزاء في الحياة، ومع ذلك فالفن يؤثر فينا، لكن تأثيره مخدر لطيف، ونحن نلوذ إليه من شقاء الحياة، لكنه ملجأ مؤقت، وتأثيره فينا ليس بالدرجة التي تجعلنا ننسى الشقاء فعلاً.
مخرج أحد مجلات الأطفال قال لي يوماً: “من كثرة تعرضي لأنماط المدارس الفنية التي أعمل على تنسيقها في المجلة، صرت أجزم أنني قادر على الرسم كأفضل واحد فيكم وعلى تحدٍ فيما بيننا”.
كانت رسمة الديك الأعرج والغير متناسق أبداً من حيث التكوين مثار ضحك هستيري بيننا، ومنذ أن رسمها بعد قبوله التحدي وحتى هذه اللحظة ونحن نؤمن بأن كل مبدع في مجاله ديك بهي الصوت لا يباريه أحد في مبارزات الفجر في ميدانه.
البطولة هي صنع التناسق المطلوب بين جوقة كل الفنون للخروج بتحفتنا الإبداعية المنشودة دائماً، قصة مكتوبة ومرسومة ومخرجة بأبهى حلة للأطفال. ولنترك الإعجاب بعمل كل واحد فيهم للمتلقي الأخير أطفلاً كان أم مريداً لهذا الفن.
يقول بيكاسو: “الإعجاب هو أن تقف خمس ساعات أمام لوحة جميلة في المتحف، أما الحب فهو أن تقف خمس دقائق فقط وتذهب، ثم تعود لسرقتها في الليل”.