رؤى متعددة لكثبان متحركة
البعث الأسبوعية – عُلا أحمد
في مجرة بعيدة، شاب في بحر من الرمال يواجه مصيراً ينذر بالخطر، خطر الحرب المعلق في الهواء على شفا أزمة، يتنقل في عالم إقطاعي مع إمبراطور شرير ومنازل نبيلة وشعوب خاضعة، حكاية خارجة عن الميثولوجيا، هذا هو “الكثبان”.
فيلم “الكثيب” أو “الكثبان” عمل مأخوذ عن رواية خيال علمي تحمل نفس الاسم للكاتب الأمريكي فرانك هربرت عام 1965، رواية لدى صاحبها الكثير ليقوله عن الدين، البيئة، مصير البشرية، استمد عوالمه من الأساطير اليونانية مروراً بثقافات السكان الأصليين، أخذ من الواقع كوكباً صحراوياً حيث الماء هو البترول الجديد، والنتيجة هي ملحمة صدمة مستقبلية تبدو وكأنها حكاية تحذيرية لعالمنا المدمر بيئياً.
امتلك المخرج الكندي دينيس فيلينوف اهتماماً خاصاً بالتفاصيل الدقيقة، والتي تتناسب مع قصة شاملة ومعقدة بنفس قدر الرواية والتي نظراً لكثرة تفاصيلها انقسم الفيلم إلى جزأين أو ربما أكثر من دون ضمانات حقيقية لأن تخرج البقية إلى النور، تتكون رواية هيربرت من أجزاء عدة فهي ملحمة ضخمة وممتدة، لكن لم ينل أي من الأجزاء التالية أهمية الكتاب الأول.
حكاية ضائعة
الأرض هي حكاية ضائعة مع مرور الوقت، الكون تحكمه “إمبراطورية” واحدة تحت إمبراطور، يتم اجتياز الفضاء واستعمار الكواكب الصالحة للسكن بعد اكتشاف السفر بسرعة تفوق سرعة الضوء، تم تعيين رواية هربرت في زمن بعيد من مستقبل البشرية، المخلوقات الفضائية لا ترى في فيلم فيلنوف، حيث تم حظر آلات الذكاء الاصطناعي بموجب مرسوم بعد حرب شاملة هذا عندما قرر الإنسان أن الآلات تجعله كسولاً وقد عفا عليها الزمن.
يحكي الفيلم قصة فتى يدعى “بول أتريديس” ينحدر من عائلة ملكية، أبيه الدوق “ليتو” حاكم كوكب كالادين، وأمه السيدة “جيسيكا” تنحدر من نسل غير معلوم لكنها تملك قدرات خارقة فهي جزء من أخوية تدعى “بيني جيزيريت”، أورثت “جيسيكا” تدريباتها لولدها لتصبح لديه قوة تساعده على تحمل مشقات الحياة كما أنها من الممكن أن ترجح كونه نموذجاً مخلصاً أشبه بالمخلص.
“أراكيس” أرض صحراوية غير مضيافة وقليلة السكان، ومع ذلك فهي المصدر الوحيد للتوابل التي تسمى “ميلانش” والتي إلى جانب تقديم العديد من الفوائد الصحية وتعزيز القدرات المعرفية، فهي ضرورية لأنها الطريقة الوحيدة الموجودة لعبور مسافات شاسعة بين النجوم، تقع “أراكيس” تحت حكم فصيلة تدعى الهاركونين التي تتكون من أناس شهيرين بالعنف بل والغذاء على الدماء ولحوم البشر يقودها بارون مهووس بالسلطة جشع وشبه مجنون، يحكمون سكانه الأصليين الفريمين الذين ينتظرون مخلصهم بحسب دين مختلق صاغه هيربرت بمزيج بين الأفكار الإسلامية والمسيحية فالشخص المختار والمخلص هو مسيح ومهدي منتظر.
تصورات ومحاولات
في عام 1974 حصل تحالف من المنتجين الفرنسيين على حقوق تحويل رواية “الكثبان” إلى فيلم سينمائي على أن يقوم بإخراجه المخرج التشيلي الشهير بأعماله الغرائبية أليخاندرو خودوروفسكي الذي سخر لها خططاً وطموحات كبرى تكاد تكون مستحيلة لصناعة نسخته الخاصة من عالم كثيب المعقد حيث أراد تعيين فريق الروك الشهير بينك فلويد لتنفيذ الموسيقى المصاحبة للفيلم، وأراد للفنان السريالي الأشهر سلفادور دالي أن يقوم بأحد الأدوار التمثيلية، ووظف أفضل الرسامين وخبراء المؤثرات البصرية لتنفيذ المعادل البصري للكواكب والشخصيات المتعددة في الرواية، لكنه لم يكن واقعياً في تصوراته، وهذا ما لم يقنع استوديوهات هوليوود الكبرى بالموافقة، فذهب المشروع لمخرج سريالي آخر هو ديفيد لينتش والذي صنع بها أحد أسوأ أفلامه عام 1984 فحمل ذلك الفشل للأستوديو المنتج “يونيفرسال” واتهم مسؤوليه بالتدخل في قراراته الإبداعية وألقى باللوم على التحكم الإنتاجي في المساومة على رؤيته الفنية فخرج المشروع اقتباساً كسولاً ذا بصريات ساذجة وحواراً كاشفاً طفولياً.
بعد ذلك ظلت “الكثبان” مشروعاً سينمائياً يملك إمكانيات غير محققة رغم وقوعها في أيدي بعض أفضل صناع الأفلام، فبنيت حولها أساطير كونها عملاً أدبياً يستحيل اقتباسه سينمائياً، لكن في عام 2021، حيث نشهد تطوراً تقنياً غير مسبوق وسهولة نسبية في تحويل التصورات الفنية إلى حقيقة مرئية، أخذ المخرج الكندي ديني فيلينوف على عاتقه صنع النسخة الحاسمة من الكثبان، مشروع ضخم ذو تصميمات مهولة ومعارك ضخمة، تجربة سينمائية هائلة ومبهرة تنقل المشاهد إلى عالم آخر.
ينتهج دينيس فيلينوف اتجاهاً يعتمد على البصريات في المقام الأول، لا يمضي وقتاً طويلاً في التعريف بالبيوت الملكية الكبرى أو طبيعة الكواكب والشخصيات بل يهتم بكيف يبدو كل كوكب، ماذا يرتدي سكان كل منها وكيف يعرفون أنفسهم وعلاقاتهم العائلية، كيف تتحرك تلك الشخصيات في فضاءاتها المتنوعة وكيف يبدو الجو العام بين كوكب كالادين موطن عائلة أتريديس الذي تحيطه المياه وكوكب “أراكيس” الذي تمثل المياه فيه عملة نادرة.
بطل واقعي
عند مشاهدة الفيلم ينتقل المشاهد إلى عالم بصري عابر للمجرات، إلى مكان جديد كلياً محكم التفاصيل، ضخم للغاية حتى أنه يقزم الممثلين والمشاهدين، يمكن من خلاله أن يستشعر ملمس الرمال وحركة المروحيات ورائحة الدم، استطاع فيلنيوف أن يخلق كوناً متكاملاً من الملامس والأصوات والروائح، عالم حسي بالكامل لكنه في أثناء ذلك يغفل عن الشخصيات والصراعات الرئيسة، فهو لا يُركِّز هنا على الكوكب برُمَّته قدر ما يعبأ بعائلة دوق ليتو أتريديس ومحاولتهم البقاء على كوكب جديد، وبالتحديد على محور هذه العائلة “بول أتريديس” (تيموثي شالاميت) الذي يبدو شاباً بما يكفي للقيام بهذا الدور مع معطف أسود وشعر مكروه. صبي يصطدم بأوهامه حول العالم ويحاول فهم ما يحدث لعائلته وشعبه ويروعه كم الفساد الذي ينخر السياسة، يحرص فينلوف ألا يُقدِّم رحلة البطل الأسطوري وإنما أن يحكي رحلة بشرية لشخص مُحمَّل بواجب ومحب للاستطلاع ويرغب في فهم كيف يحيا الآخرون، وهي صفات سوف تُعينه على التكيُّف مع واقعه جديد.
“الكثبان” قصة متعددة الطبقات تتفاعل مع عناصر السياسة والدين والبيئة والتكنولوجيا والمشاعر الإنسانية، تتكشف بين رمالها لعبة الشطرنج بين المجرات في صراع من أجل البقاء والسيطرة على أراكيس والتوابل مشابهة لواقع ليس بغريب عن عالمنا، كان قد حاول هيربرت أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأيام.