المعرفة البديلة
ناظم مهنا
تؤكد لنا الوقائع، أن معارفنا وأيديولوجياتنا، بما في ذلك نظرتنا للأدب وتذوقنا الجمالي، كلها باتت قديمة،عاجزة، مفككة، متنافرة، ولا توفر لنا أي حماية أو حصانة ذاتية، على المستوى الفردي ولا على المستوى الجمعي، تغيّر العالم من حولنا بسرعة الضوء، ونحن نتداعى ونتناثر ونخبنا ضائعة في التيه الصحراوي.
وفي ظل هذا التردي الثقافي والسياسي الاجتماعي، قد يبدو من نافل القول أن نطالب بالمعرفة البديلة! وربما قائل يقول: هل توجد عندنا، بالمعنى الحضاري والفلسفي، معرفة، حتى نطالب بمعرفة بديلة؟!
أذكر أنني قرأت مرَّة لمفكر تونسي مقالاً نشره في تسعينيات القرن الماضي، ورسخ في ذاكرتي لشدة قسوته، إذ يشير فيه إلى أننا نعيش حرباً أهلية دائمة منذ “الفتنة الكبرى” وحتى حاضرنا هذا، وقد ترتبت على ذلك أشياء كثيرة انعكست على شكل انكسارات معرفية، يجب علينا الخروج منها.
إن صورة العرب اليوم تبدو جليّة، من الداخل ومن الخارج، فهم يتقاتلون قتالاً دامياً، يشارك فيه الجميع ضد الجميع وعلى كل المستويات، ومن المستبعد أنهم يدركون لماذا وكيف وقع الأمر وإلى متى، وماذا يريدون؟! هل يريد كل طرف أن يفني الآخر؟!.
والأشد مرارة في الأمر أنه في هذه الدوامة من الحرب الدائرة بين العرب، والتي تتسع وتتعمّق لم يخرج من بينهم من يوقف هذه الحرب! فلو كانت لدينا معارف حقيقية وعميقة ربما لكانت وفّرت علينا الكثير من المعاناة التي نعانيها اليوم، ويخيّل لي أننا أخطأنا جميعاً ولم نقدر بجدية كافية حجم التغير الذي طرأ على العالم عقب ما سمّاه فرانسوا ليوتار “الانفجار الاتصالي عن بعد”، وراح معظم مثقفينا يهزؤون بمقولات ما بعد الحداثة على أنها مجرد صرعة أو موديل من الموديلات الفكرية، والأمر لم يكن كذلك! فقد أشار ليوتار إلى تفكك المذاهب والنظريات والاتجاهات الفكرية الكبرى في المعرفة الأدبية والعلمية، في فترة ما بعد الحداثة.
وليوتار هو منظر ما بعد الحداثة وصاحب المصطلح، ومؤلف كتاب الوضع ما بعد الحداثوي.. وهو كان يصف المرحلة التي تسود العالم بعد عصر الحداثة التي قامت على سرديات أخلاقية كبرى، وعقائد شمولية تتمحور حول البطولة والصدق والعدل، وما شابه ذلك.. وهذه السرديات تتمركز حول أوروبا وتؤكد نرجسيتها الزائفة التي جلبت للعالم الحروب والمآسي، والأيديولوجيات المتحاربة التي جيّشت العالم كله للحرب تحت رايتها العقائدية ومزاعمها الإنسانية في نشر الإخاء والحرية والمساواة.
نحن، العرب، توهمنا أننا في معزل عما يجري من تغيّر في العالم، فلايزال مثقفونا، العلمانيون والسلفيون، رغم إخفاقاتهم، يصرّون على تلك السرديات وعلى التمتع بالامتيازات التي منحت لهم في القرن المنصرم! وإذا ما تغيّر هذا (الستاتيكو) الثقافي سيذهبون مع أفكارهم ومعارفهم طيّ النسيان! ولا مفر أمامنا، طال الأمر أم قصر، من المعرفة البديلة التي تبدأ بالشك بكل معلومة، وإخضاعها للتفحّص والتحليل، ولمنطق الاستدلال القائم على القياس والبرهان، وهذا أمر منفصل عن أطروحات ما بعد الحداثة، وكان ممكناً أن يكون حاضراً وملازماً للتفكير منذ زمن طويل، وقد مارسه أجدادنا منذ عصر التدوين وفي زمن الازدهار الحضاري الإسلامي! وهذا ما يعرف بالسلوك العملي، وهو ما يجب أن نتدرّب عليه في حياتنا اليومية والتعليمية، في البيوت وفي المدرسة والجامعة والحياة الفكرية والثقافية.. ويترافق هذا التدرّب مع إعادة النظر بكل المسلمات وإعادة طرح الأسئلة من جديد عما كنا نعتقد أننا نعرفه، مثل: معنى الدولة ومعنى القانون، ومعنى المواطنة، وما هو الشعر وما الرواية؟ ومن هو المثقف أو المفكر الكبير؟.