“الإفطار الأخير” الصورة البصرية بين عالمين وتغلغل الإرهاب
إبريق المياه الساخنة نصف الممتلئ، والبندورة الحمراء وأزهار البنفسج، إيحاءات تعبيرية ودلالات لونية عن الحبّ والفراق الأبدي والحزن، وعن عقارب الزمن التي لن تتوقف رغم كل الألم. مضامين لاحت مع حركة الشخوص بفيلم “الإفطار الأخير” –سيناريو وإخراج عبد اللطيف عبد الحميد، إنتاج المؤسسة العامة للسينما- الذي عُرض على مسرح الدراما في دار الأوبرا ضمن أيام احتفالية وزارة الثقافة “أصالة تتجدد”.
اشتغل عبد الحميد في فيلمه على الحسّ الإنساني بالوجع الذي عاشه السوريون خلال سنوات الحرب بآلام الفقد التي طالت الأبرياء، ليقارن بقسوة خيانة الوطن والانضمام للمجموعات الإرهابية. وكسائر أفلام عبد اللطيف عبد الحميد نشعر بالومضة السحرية واللغة الشعرية بالصمت والحوار واللقطة، وبمزاوجة الطرافة بالحزن. ومن إيحاء عنوان الفيلم “الإفطار الأخير” نستشفّ صورة الموت ونستحضر لوحة العشاء الأخير للسيد المسيح بكل ما تحمله من معاني الغدر.
الأحياء والأموات
الملفت في هذا الفيلم أنه دمج بين عالم الأحياء والأموات بالتخيّل الذي تجاوز الصمت ووصل إلى درجة الكلام وحضور الغياب في كل لحظة، وبعض المشاهد شدّت المشاهدين وبدت مرعبة، ولاسيما مع الانتقال الموسيقي المفاجئ الذي شارك بالحوار الخفي، والأهم براعة عبد الحميد بتناول ملامح الحرب وانعكاساتها وكيفية تغلغل الإرهابيين بين المواطنين، وفي الوقت ذاته أشار المخرج إلى الفساد مع مكافحته من خلال شخصية سامي خياط -عبد المنعم عمايري- الذي يلجأ إليه سكان الحي لمساعدتهم بالمشكلات الصعبة التي ظهرت أثناء الحرب مثل الاختفاء المفاجئ والاختطاف والحجز والتحقيق من خلال علاقته المباشرة بالمسؤولين ومديري مكاتبهم مع رفضه القاطع لأي مبلغ أو هدية، وتميّز بأدائه المؤثر إلى أبعد الحدود ودموعه المقنعة وخاصة في مشاهد المقبرة.
ويضعنا المخرج منذ اللحظات الأولى بمواجهة الحدث في مشهد عاطفي بين سامي وزوجته –كندة حنا- حينما يقوم سامي بحلق ذقنه أمام المرآة فتعانقه زوجته وسط أصوات القذائف القادمة من كل اتجاه وتهمس في أذنه الإفطار جاهز، ثم تنتقل الكاميرا إلى مائدة الإفطار وخوف رندة من القذائف وإحساسها بأنه الإفطار الأخير، ولكن المشهد يتكرر ذاته في نهاية الفيلم لكن بصورة أخرى.
تدور أحداث الفيلم في أحد أحياء دمشق بالقرب من مدرسة درويش الزوني في حي ركن الدين في شارع فرعي من لحظة سقوط القذيفة وإصابة رندة وهي بالمطبخ تعدّ طعام الغداء، فيدخل سامي إلى المنزل ليشاهدها وسط دمائها.
الفلاش باك
ويعود المخرج بالفلاش باك إلى الماضي وحياة سامي ورندة، مركزاً على أدق التفاصيل الحياتية بتماهٍ مطلق بين الواقع والخيال، بين الأحياء والأموات، فيمضي السياق الدرامي بتوازٍ بين حياة سامي الواقعية وتخيلاته لرندة في كل أرجاء المنزل وحواراته معها عن كل تحركاته، ويتفاقم عنصر التشويق من خلال الخط الآخر لحضور رندة ومعرفتها المسبقة بالأحداث، فيتطرق المخرج إلى عالم الأموات.
خيانة من الداخل
الحدث المهم بالفيلم هو شخصية “أبو فتحي” -يوسف المقبل- الذي تنمّ الأحداث عن اتجاهه الإرهابي فيما بعد بلجوئه إلى سامي لمعرفة سبب اعتقال أخيه، ويتبيّن بأنه خائن يعمل مع الإرهابيين في الزبداني ويشارك بسفك الدم السوري.
في المشاهد الأخيرة يقتنع سامي بالزواج من جمانة -راما عيسى- التي اختارتها زوجته رندة ليتزوجها في حال موتها، ويتكرر المشهد العاطفي ذاته الذي بدأ به الفيلم ولكن مع جمانة وإحساس سامي بأنه سيفصل آخر بدلة، وتأتي النهاية بتفجير سيارة سامي المزدانة بزينة الزفاف في صباح زواجه فتهرع جمانة وسكان الحي لإطفاء النار التي قضت على سامي وعلى حياة كثيرين.
استشهاد سامي لم يكن مفاجئاً، جاء بعد مواجهته لأبي فتحي بأن أخاه إرهابي، وبعد مشهد تخيّل رندة تدعوه للحاق بها، فيعيد عبد الحميد مشهد الإفطار ليجمع بين رندة وسامي لكن في تصوّر للعالم الآخر الأبدي تحاط بهما هالات بيضاء بمشهد سينمائي غير مألوف بالأفلام.
وخلال الفيلم يؤدي عبد اللطيف عبد الحميد شخصية والد يوسف مدير مكتب المسؤول، الذي يستضيف سامي في الضيعة ويسرد معه تجربته بعد موت زوجته ويقنعه بأن الحياة يجب أن تستمر، ومثل كل أفلام عبد اللطيف يضفي حضوره طرافة وتألقاً. وتظهر بالفيلم شخصية الشاعر المثقف –كرم الشعراني- صديق سامي ليساند سامي بمواقفه.
تحية إلى لاريسا
قدّم الفيلم المخرج عبد اللطيف عبد الحميد وحيا بدموعه المختنقة زوجته الراحلة لاريسا عبد الحميد التي قدمت آخر عمل لها في هذا الفيلم.
كما ألقى المدير العام لمؤسسة السينما مراد شاهين كلمة تحدث بها عن المنجز الإبداعي الجديد، وعن المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الذي يتمتع بمهارة مدهشة في التعبير عن أعقد الأفكار والمشاعر بأبسط الأساليب وبتجسيد أصعب الحالات الدرامية بأقل قدر من الأدوات والكلمات، فهو حالة سينمائية نادرة شكّلت جزءاً من الذاكرة السينمائية السورية.
وتابع في حديثه مع “البعث” بأن الفيلم عالج مسألة إنسانية عميقة تتعلق بالآلام التي يعيشها الفاقد في الأيام الأولى من الفقد، وقد حاول المخرج أن يشدّ المشاهد بطرحه على هذه الفكرة، ويمتاز عبد اللطيف عبد الحميد بالفطرة السينمائية الموجودة لديه، فهو القادر على الإبكاء والإضحاك في الوقت ذاته، وبقدرته على صنع الألم من البسمة، ومن البسمة ألم ضمن بساطة الصورة وعمق الطرح.
الطرافة مع الجدية
الفنانة نادين خوري كانت حاضرة وتحدثت عن جمالية اشتغال المخرج عبد الحميد على الصورة البصرية، وأثنت على مسيرة المخرج الذي قدم أفلاماً هادفة، وفي هذا الفيلم أظهر انعكاس الحرب على النفوس البشرية بطرافة ممزوجة مع الجدية.
الفنان عبد السلام غيبور الذي جسد دور الجزار بيّن أن مقولة الفيلم هي الشهيد الحيّ الذي يمشي على الأرض.
ملده شويكاني