السودان أسير الفوضى التي صنعها الغرب
هناء شروف
السودان مرة أخرى غارق في الاضطرابات السياسية، ففي 25 تشرين الأول الماضي وضع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك قيد الاعتقال العسكري مع وزرائه، وأعلنت البلاد حالة الطوارئ، وتم حل مجلس السيادة الذي يعتبر أعلى سلطة في البلاد والحكومة الانتقالية.
البلد الأفريقي الذي يتمتع بموارد طبيعية وفيرة لم يسبق له أن حصل على التنمية التي يستحقها، فقد تركته عقود من الحكم الاستعماري في وضع داخلي معقد من مناطق ومجموعات عرقية وقبائل وديانات مختلفة.
تدخلت الولايات المتحدة بشكل مكثف في الشؤون الداخلية للبلاد مستغلة الفوضى، باستخدام جميع أنواع الإجراءات بما في ذلك المساعدات الخارجية والعقوبات. ولطالما دعمت الولايات المتحدة المعارضة في السودان مما أدى إلى تفاقم الاضطرابات. في أوائل التسعينيات اتهمت الولايات المتحدة في اقتراح إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة السودان بانتهاك حقوق الإنسان وبالتالي أوقفت جميع المساعدات المقدمة إلى البلاد باستثناء المساعدات الإنسانية التي تم تحويلها لتكون تحت إدارة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وعندما أعربت الحكومة السودانية عن استيائها قامت الولايات المتحدة بتعليق المساعدات الإنسانية للسودان.
في عام 1993 أدرج صندوق النقد الدولي بقيادة الولايات المتحدة السودان كدولة غير مؤهلة للحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، وعلق حقوق التصويت قائلاً إنه فشل في الوفاء بالتزاماته المالية كدولة عضو. لاحقاً صنفت الولايات المتحدة السودان على أنها “دولة راعية للإرهاب” في نفس العام. بعد ثلاث سنوات بدأت الولايات المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية شاملة ضد السودان استمرت حتى تشرين أول 2017. خلال هذه العقوبات طويلة الأمد منعت الولايات المتحدة السودان من أن يصبح ممثل إفريقيا في مجلس الأمن الدولي مما أعاق تصديره للنفط.
لقد ألحقت سياسات الهيمنة طويلة الأمد التي تنتهجها الولايات المتحدة وعقوباتها المستمرة ضد السودان أضراراً جسيمة بالتنمية الاقتصادية مما أدى إلى انزعاج البلاد من جراء الصراعات والحروب الأهلية والاضطرابات.
المشكلة في جنوب السودان وقضية دارفور هما أكثر الأعذار التي تستشهد بها الولايات المتحدة لتدخلها التعسفي في الشؤون الداخلية للسودان، فالجزء الجنوبي من السودان (جنوب السودان الآن) هو المنطقة الرئيسية المنتجة للنفط، وتحدت باستمرار الحكومة المركزية بالقوة المسلحة وطالبت بالحكم الذاتي وقد أيد النداء الولايات المتحدة التي فرضت في البداية عقوبات على السودان بحجة عدم إحراز تقدم في محادثات السلام، ومولت السكان المعارضين للحكومة لتحقيق ما يسمى بالسلام والديمقراطية. في عام 2011 خططت الولايات المتحدة لاستقلال جنوب السودان لوضعها بالكامل تحت سيطرتها. لذلك خسرت الحكومة السودانية ما يقرب من 70 في المائة من مواردها النفطية مما أدى إلى تراجع عائداتها المالية وتوجيه ضربة قاتلة للاقتصاد السوداني الأمر الذي أثار احتجاجات واسعة النطاق أدت في النهاية إلى الإطاحة بحكم عمر البشير الذي دام ثلاثة عقود 2019.
عانى إقليم دارفور في غرب السودان من عقود من الركود والفقر والصراعات الحادة المتكررة بين المجموعات العرقية المختلفة، حيث تتهم الولايات المتحدة الحكومة السودانية بانتهاك حقوق الإنسان في قضية دارفور، وعلى هذا الأساس فرضت عقوبات مطولة على السودان، وعرقلت المنظمات الدولية عن تقديم المساعدة له.
في الوقت الحالي، التناقض الرئيسي الذي يواجه السودان هو الخلاف المطول بين السياسيين المدنيين والحكام العسكريين، وقد أسس القطاعان حكومة انتقالية مسترشدة بما يسمى بـ “مبدأ الديمقراطية” الأمريكية بعد تنحي البشير في عام 2019.
لكن كما هو الحال في أي دولة أخرى في وضع مماثل، لدى السياسيين المدنيين والحكام العسكريين وجهات نظر مختلفة إلى حد كبير حول حكم الدولة، وتوزيع المصالح، حيث وفقاً للخطة الأصلية سيتم تسليم رئاسة مجلس السيادة الانتقالي إلى السياسيين المدنيين، لكن الجيش لم يكن مستعداً للتخلي عن السلطة.
في أيلول الماضي دعا المتظاهرون المؤيدون للجيش إلى حل الحكومة التي يقودها المدنيون بحجة أن عدم كفاءة الحكومة التي يقودها المدنيون في الحكم هو الذي أدى إلى الأزمة الاقتصادية. وعليه زار المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان السودان للوساطة في أواخر تشرين أول الماضي، لكن بعد يومين من رحيله وقع الانقلاب العسكري.
الاضطرابات السياسية التي طال أمدها في السودان هي نتيجة التدخل الغربي طويل الأمد في شؤونه الداخلية بقيادة الولايات المتحدة بحجة “الحرية والديمقراطية”، لذلك من الصعب أن يخرج من المأزق، وأن يفلت من كارثة إنسانية شديدة وطويلة الأمد، وبالتالي فإن دور الولايات المتحدة يتعرض لانتقادات واسعة النطاق من قبل المجتمع الدولي. ووفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي عاش 47 بالمائة من سكان السودان تحت خط الفقر في عام 2019 ، وقد تجاوز معدل التضخم في البلاد 300 بالمائة هذا العام.