أبو الشهرة.. ونارها!
حسن حميد
أظنّ، أنّ ما من أحد من الأدباء والمفكرين والشعراء والفنانين أطلقَ شهرةَ ما كتب وما قال وما صنع بمفرده، وإنما كان له آباء هم الذين أسهموا في شهرته، وذيوع صيته، وتجلية مكانته بين الذين يكتبون الأدب والفكر والشعر ويصنعون الفنون على اختلاف مسمياتها.
مهمة المبدع منذ أيام طرفة بن العبد، ابن العشرين عاماً، وحتى يومنا الراهن، هي مهمة محدّدة بالكتابة والقول وصناعة المثال، أمّا مهمة الشهرة فهي واقعة على عاتق آخرين حين يتحدثون، ويثنون، ويمجّدون الإبداع الذي ظهر بعد مقارنته بالإبداعات التي سبقته، أو الإبداعات التي زامنته.
بوشكين الروسي لم يذع شهرته، وينادي بصيته، ويصف مكانته أهلُهُ، ولا مدرستُهُ، ولا الدائرةُ الدبلوماسيةُ التي التحق بها، شهرته جاءت من أهمية نصوصه، وما كان عليه من مهمّة يقوم بها سوى الكتابة والقول بعد أن وعى ما يكمن فيهما من أهمية وروح وجمال. وغوته لم يصبح من المشاهير في ألمانيا لأنّه التحق بقصر الحاكم، ولا لأنّه يكتب على ورق صقيل، ولا لأنّه يجالس الكونتات وأهل المكانة، وإنما أصبح من المشاهير بنصوصه، وقوّة موهبته، والروح السّامية التي بدت مثل الطيور تجول في رحابة النصوص، لم يقل الحاكم الذي أحبّ نصوص غوته لمن حوله، انفخوا فيها، لتصير نصوصاً علوية، أبداً، الموهبة هي التي حلّقت بنصوصه عندما ناددت نصوص الآخرين وبزّتها!.
وهكذا كانت حال المبدعين في جميع أنحاء الدنيا، لأنّ النصوص والأعمال والأقوال التي تعرف الشهرة والذيوع من دون وجه حق (من دون موهبة، وروح، وجمال) تسقط مثل النباتات التي يطلقها الربيع زاهية ندية بارقة، ولكن إلى حين، غير أنّها حين تستوي على سوقها تبدو على حقيقتها بأنّها نباتات شوكية، مآلها السقوط هي وما وُصّفت به.
بدر شاكر السيّاب، جاء من قرية صغيرة في جنوب العراق (جيكور)، لا مختار ولا وجيه ولا نهر ولا قلعة ولا جسر طالب بأن يكون مشهوراً ونايفاً على غيره من كتّاب القصيد، وفوّاز عيد الفلسطيني، كان ابن مخيّم، عاش في الخيمة منفياً من قريته (سمخ) القريبة من طبريا، طارت به موهبته إلى مجلّة الآداب في بيروت في أوائل الستينيات لتبديه في صورة تليق بقصيده الماجد، لا أحد كان وراء شهرته، لا مدير وكالة الغوث، ولا مختار المخيم، موهبته هي التي جعلته شاهين الشعر في زمانه وبين مجايليه، وأبو القاسم الشابي، كان يكتب القصيدة في بلدته (توزر) في الصحراء التونسية (الجريد) ويرسلها إلى الصحف والمجلات المصرية فتنشر وتقرأ ويدور حولها النقّاد، حتّى راح التونسيون يتساءلون من هذا (الجريدي) الذي يرفع لواء الإبداع التونسي في مصر أم الدنيا؟.
وساراماغو البرتغالي، صانع الأقفال الحديدية، لم يتعلّم كما ينبغي، ولم يصاحب قوماً من أهل المكانة، لكنّه حين كتب شالت به موهبته إلى أن حاز على أهم جائزة أدبية في العالم.
وجان جينيه الفرنسي، اليتيم، الذي قضى سنوات من عمره داخل الميتم، وداخل السجون، لأنّه كان لقيطاً، في المرة الأولى، ولأنّه كان سارقاً في المرة الثانية، يسرق ليأكل ويسرق ليلبس، ما كان أحد وراء شهرته سوى موهبته، هذه الموهبة هي التي جعلته نصيراً للفلسطينيين، حين اقتطع من عمره سنوات ليعيش بينهم في الأغوار والمخيمات، وليكتب عن مظلوميتهم الأليمة.
إذاً، لا ساند للشهرة، ولا أبوّة لها سوى الموهبة والثقافة والسمو الروحي الذي لا يرضى بالراقات الدانية ياسرة الوصول، فالشهرة ليست أباً للموهبة، الموهبة هي أبو الشهرة، وهي نارُها، ومن يعيها ويعرف متطلّباتها.. يصل.
Hasanhamid55@yahoo.com