القمة الافتراضية جولة لمصلحة الصين
محمد نادر العمري
لا يبدو أن ما ذكرته وسائل الإعلام وحتى ما تضمّنته التصريحات الرسمية يكشف أهمية القمة الافتراضية عبر الشبكة العنكبوتية التي حصلت بين الرئيسين الأمريكي “جو بايدن” ونظيره الصيني “شي جين بينغ”، بل يتجاوز حدود ذلك بكثير، وخاصة في ظل بعض القضايا الحيوية التي يمكن تلمّسها بشكل مباشر أو تلمّسها من مضمون اللقاء الذي دار لمدة تزيد عن ثلاث ساعات متواصلة.
فمن حيث الشكل واللغة الجسدية يلاحظ أن اللغة غير مستقرة للرئيس الأمريكي جو بايدن من ناحية الجلوس وكذلك إشارات اليد، في حين أن الرئيس الصين الذي استمع لشكر نظيره الأمريكي لحسن توفير الوقت لهذا اللقاء كان أكثر ارتياحاً، وهذا كان واضحاً في توسطه الكرسي والصورة العامة للمحتوى الإعلامي، في حين أن بايدن كانت وسائل الإعلام تبرزه من الجانب الأيمن في معظم الأوقات.
لذلك فإن الثبات والاستقرار الانفعالي في قراءة لغة الجسد يسجل للرئيس “بينغ” الذي كان صلباً في مواقفه القومية ونبرته الصوتية الحادة ضمن السياق الدبلوماسي.
ومن ناحية التوقيت فإن التطرق للملفات المهمّة تزامن في وقت لاحق مع مجموعة سلوكيات أمريكية لاحتواء الصين منذ تولي بايدن للحكم، وفشل الاجتماع الأول في حقبته والذي جرى في شباط الماضي، وما تلا ذلك من سعي الإدارة الأميركية الجديدة إلى بناء تحالف غربي لمواجهة صعود نفوذ الصين وإلى حدّ ما روسيا عالمياً وتراجع شعبية بايدن وتراجع هيبة أميركا بعد انسحابها المخجل من أفغانستان.
وفي التوقيت أيضاً يُسجّل للرئيس الصيني أنه تمكن من توسيع شعبيته داخل بلاده الذي يعمل على تعزيز موقعها الاقتصادي بإصلاحات داخلية تعيد سيطرة الدولة على بعض القطاعات التي نمت بأكثر مما رسمه الحزب الحاكم لها.
ومن ناحية المضمون فإن الأهمية هنا هي الأكثر حساسية وسجلت للصين، حيث شكل قول الرئيس بايدن إن بلاده لا تسعى إلى دعم انفصال تايوان، علامة فارقة يمكن للصين استغلالها في المحافل الدولية، وحتى في محاكم الجنايات، خاصة وأن لدى الصين الكثير من الأدلة على الدور الأمريكي منذ قبل استعادة الصين لعضويتها الكاملة في الأمم المتحدة عام 1949، وما قامت به أميركا بعد ذلك من تصعيد في دعم التحركات المعارضة هناك والمطالبة بالانفصال.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في حقبة الثمانينات من القرن الماضي، استطاع الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ تغيير دفة الاقتصاد في البلاد نحو “رأسمالية الدولة” مع بقاء نظام الحكم التقليدي وعلى قمته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. كانت تلك بداية الانطلاقة الاقتصادية الصينية التي أوصلتها الآن إلى وضع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهو المتغيّر الواقعي الذي دفع إدارة باراك أوباما لتعزيز استراتيجية احتواء الصين.
غير أن التيار الانعزالي الأمريكي يؤكد أن إستراتيجية الاحتواء الأميركية والغربية عموماً، لن تقود لوقف تلك المسيرة الصينية حتى وإن أبطأتها قليلاً. فقد أثبتت سياسة الاحتواء على مدى العقود الماضية أنها لا تحقّق سوى نتائج متواضعة. حتى ما رأيناه من زيارة وزير الخارجية الأميركي لإفريقيا مباشرة عقب القمة وما يتحدث عنه كثيرون من توجه أميركا للحدّ من نفوذ الصين في القارة السمراء ليس إلا مجرد “تفكير بالتمني”. فالنفوذ المتنامي الصيني في إفريقيا تجذر بالفعل، خاصة وأنه لا يأخذ في الاعتبار كل لغو الحديث الغربي عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية البيئة.. إلخ، بل يعتمد بناءاته على تنمية مستدامة.
وحتى تحالف “أوكوس” الذي أنشأته الإدارة الأمريكية الحالية وما تطمح إليه مستقبلاً من توسيع دائرة الدول المنضمة إليه والمحيطة بالصين لن ينجح في تحقيق أهدافه، في ظل تداخل نمو هذه الدول بالاقتصاد الصيني بما في ذلك الهند.
والمسعى الأمريكي في تهدئة الوضع مع الصين مقابل تصعيد سلوكياتها مع روسيا لن يجد طريقه للنور أيضاً، ولعلّ الردّ الروسي الصيني على توقيع اتفاقية تعاون عسكري استراتيجي لمدة 25 عاماً وإجراء مناورات هي الأكبر في تاريخ البلدين هي رسالة وصلت لصندوق بريد الإدارة الحالية، لذلك ما يحصل اليوم يمكن تشبيهه بما وصفه نعوم تشومسكي عن فترة السبعينات بـ”الميوعة العالمية” مع اختلاف الظروف طبعاً في هذه الفترة وبقاء الأطراف هي ذاتها، غير أن الإدراك الصيني الروسي بأن إسفين الخلاف الذي دكه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي في السبعينات مهّد الطريق للولايات المتحدة لتربع النظام الدولي، وهو ما يفسّر أنه مع كل محاولة أمريكية لاحتواء أحد الطرفين أو خلق خلاف بينهما يزيد في المقلب الآخر طبيعة التعاون والتداخل!.