حاجة المجتمع إلى الحياة الحزبية
د٠ عبد اللطيف عمران
كثيرون من الذين يعيشون في واقع كالذي نعيش يرون أن حاجة المجتمع اليوم هي بالدرجة الأولى معيشية، وتكاد تتطور إلى وجودية كاستمرارية وكينونة، ولا شك في أنهم على صواب من جهة، لكن من جهة ثانية فإن معرفة الأسباب تسهم إسهاماً أساسياً في معالجة المعضلة، إذ لم تكن مجتمعاتنا ولا أقطارنا ترزح تحت وطأة هذه المعضلة قبل عقد من السنين.
فقد غابت لزمن ليس بالقصير عن أغلب مؤسساتنا مسألة المراجعة النقدية كضرورة وكهدف، ولاسيما في ميادين التنمية بفروعها العديدة والمتنوعة، ولعل افتقادنا لأبحاث مجدية، ومستحصدة النتائج في ميدان التنمية السياسية كان من أهم أسباب تعثّر (التنمية الاجتماعية) بل تراجع كل منهما في وطننا وأمتنا، فصارت إشكالية التنمية الاجتماعية هي الإشكالية نفسها في التنمية السياسية، ولا سيما في ميادين الحياة الحزبية، خاصة تلك الأحزاب التي نشأت وتطوّرت في فضاء حركة التحرّر الوطني والاستقلال العربية، فعانى المجتمع والدولة من الظواهر الحزبية التقليدية في الوطن العربي، وعانت هذه الأحزاب نفسها من الانقسام الاجتماعي الذي تصاعدت حدّته وكأن الأمر تم في غفلة؟!.
في هذا الميدان المضطرب استفاق المعنيون من سياسيين وحزبيين وسيسيولوجيين على وقع المفاجأة وقد فقدوا أدواتهم التقليدية، وحين لجؤوا إلى المراجعة النقدية وجدوا أنفسهم متأخرين وقد سبقهم سيل الفتنة الجارف، فكانوا أسارى خيارين لتفسير أسباب الانقسام الاجتماعي وأثرها في تصدّع بنية الأحزاب والمجتمع السياسي الوطني، والخياران هما: نظرية المؤامرة، وعامل القصور الذاتي.
نعم لقد أفلحت الحركة الوطنية العربية في القرن الماضي إلى حد كبير في تفكيك الهجمة الاستعمارية التقليدية: العثمانية والأوروبية الغربية، لكن يبدو أنه كان هناك كثير من الاطمئنان الزائد عن الحاجة عند الجميع ولاسيما مع غض النظر عن تراجع الأسس الداعمة للمشروع القومي العربي، وتقدّم حوامل المشروع الصهيوني بالمقابل… وتطوّر الأمر فصار اللهاث واضحاً مع الانتقال من تفكيك الهجمة الاستعمارية التقليدية التي تطوّرت وتجدّدت بعد 2010 بثوبيها العثماني والغربي الجديدين، إلى القفز فوق تفكيك الهجمة على المشروع القومي بعد كمب ديفيد وأوسلو ووادي عربة والاتفاقات الإبراهامية، نحو العمل المضني لتفكيك الهجمة على المشروع الوطني -القطري- فلم يحالفنا النجاح في الثلاث بعد أن كنا قد أفلحنا في تفكيك الأولى في القرن الماضي، ذاك القرن الذي لم يئن فيه العرب تحت وطأة الانقسام الاجتماعي، لا في أقطارهم، ولا في الوطن العربي الكبير على نحو ما نرزح تحته اليوم.
هذا لا يعني أن الوعي العروبي غائب اليوم في الشارع العربي، لا في المجتمع ولا في الأحزاب، لكن الظاهرة الحزبية العروبية اليوم أقل تألقاً وحضوراً وفعلاً، وهذا واضح وأسبابه معروفة، ويكاد يكون (البعث) هو الحزب الوحيد الذي يجهد بكوادره ومؤسساته، ببنيته التنظيمية والفكرية لتلافي مخاطر التشظّي الحزبي العربي، والانقسام الاجتماعي المؤلم في الحياة الوطنية.
كثيرون منّا يؤلمهم الحديث عن الانقسام الاجتماعي، وعن بروز وعي وهويات ما قبل وطنية، ويتمنون أن يفرّوا من وجه الحديث عنه، والبحث في ضرورة التصدي له، مقابل وضوح خطره على بنية الأحزاب، والمجتمعات والأوطان والأمة. فمع هذا الانقسام تصبح المجتمعات والأحزاب سويّة (متغيرات) بعد أن كانت (ثوابتَ). فانقسام المجتمع إلى مجموعات متنوعة أولاً، ثم متباينة ثانية: اقتصادياً – فكرياً – جغرافياً – دينياً يؤدي إلى انقسامها سياسياً وحزبياً بالتالي، وهذا ما يغيّب قيمة الوعي الوطني في إيديولوجيا هذه الأحزاب لتصبح أحزاباً برلمانية انتخابية يرهقها النوسان بين ثنائية: السلطة والمجتمع على نحو ما نشهد في عدد من الأقطار كالعراق ولبنان وتونس… إلخ.
في هذا السياق نجد في عالم اليوم تطويراً، وقراءة جديدة تنتقل بتفسير قولة أرسطو (الإنسان حيوان سياسي بطبعه) إلى (اجتماعي)… لتصل إلى بيان حاجة أي حزب إلى تفحّص معايير وجوده وقدراته، ومنها:
1- مراجعة بنيته التنظيمية ووحدته الفكرية وأثر الانقسام الاجتماعي فيهما.
2- بيان مدى تأثر كوادره ومؤسساته وبرامجه بهذا الانقسام.
3- قدرته على الحد من مخاطر هذا الانقسام على الحزب والمجتمع والدولة سوية.
ذلك لأن الأحزاب السياسية اليوم في مجتمعاتنا هي من أكثر المؤسسات عرضة لاهتزاز الثقة، وللنقد والتشكيك أيضاً، ما يتطلب إضفاء الطابع الاحترافي بصبغته الوطنية الصافية على العمل الحزبي بالدرجة الأولى.
ففي ظروف كالتي نعيش، ظروف لا نشارك تحت وطأتها في إنتاج المعرفة، بل نعيش في حالة نكوص عن تلقيها والإفادة منها، ظروف أصبح فيها للرجعية معانٍ غير معهودة، وكذلك للتقدّم، وللعلمانية والدّين… في هكذا ظروف يجب إعلاء صروح (الوطنية) في أي ميدان، لتغدو معيار المؤسساتية الحزبية والمجتمعيّة، التنفيذية والتشريعية، القطرية والقومية إلخ…
في هذه الظروف لا يوجد في مجتمعنا الوطني ولا العربي حامل لوحدته وضامن لها أقوى وأعرق وأكثر تأهيلاً وقبولاً من حزب البعث حين يحقق جدوى مراجعته النقدية الواعدة ذلك لجدارته في تأصيل مفاهيم: (القوة – التواصل – المشروعية) الاجتماعية والسياسية.