في ذكرى رحيله الأربعين.. رياض الصالح الحسين شاعر الاستثناء في حياتنا الثقافية
على الرغم من مرور أربعين عاماً على رحيله المبكر، إلا أن أشعاره مازالت حاضرة، وسيرته مازالت تروى كشاعر وصِف بالمعجزة، وأحد أعلام قصيدة النثر، متحدياً صممه وبكمه، لتكون القصيدة التي يكتبها سمعه ولسان حاله، ولأنه كان الاستثناء في حياتنا الثقافية، وتخليداً لتجربته الشعرية والإنسانية، أقام اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين ندوة عن حياة الشاعر رياض الصالح الحسين، شارك فيها: الناقد نذير جعفر، ود. حسن حميد، ود. راتب سكر، وأدارها شقيق الراحل أ. أكرم الصالح الحسين الذي بيّن في تصريحه لـ “البعث” أن “رياض” تواجد كشاعر في فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات، وكانت قصيدة النثر حينها شيئاً جديداً في المشهد الثقافي، فكان من روادها، وكانت قصائده إنسانية بامتياز، بسيطة وعميقة، مشيراً إلى مرضه، فبعمر الـ 13عاماً، وفقدانه السمع، وإصابته بصعوبة في الكلام، إلى جانب تأثيرات حياتية أخرى جعلته يقرأ بنهم قصيدة النثر في الأدب الأوروبي والشعر العالمي، وهذا ما حرّضه على أن يخرج عن النسق الذي كان سائداً في كتابة الشعر، فكتب قصيدته، واستقبلها الشباب بكل حفاوة لأنها كانت تعبّر عنهم، منوّهاً إلى أن دواوينه شبه مفقودة، وتمت طباعة أعماله الكاملة سنة 2016 عن طريق دار المتوسط في ميلانو بايطاليا بنسخ لا تتجاوز الـ 1500 نسخة وُزّعت في الإمارات والعراق وبعض الدول العربية، ومن خلال منبر جريدة “البعث” يناشد وزارة الثقافة إعادة طبع أعماله الكاملة.
قدرة عجيبة
وصفه د. نذير جعفر بأنه نيزك أضاء عتمة الكون، وسرعان ما انطفأ وهو في عمر 28، إلا أن أشعاره مازالت حية تعيش بيننا، مشيراً إلى أنه تعرّف على الحسين في حلب 1975، حيث كانا يعملان في إحدى المؤسسات، وكان حينها يكتب الشعر، وهو الذي ترك المدرسة مبكراً بعد مرضه وإصابته بالصمم، وعدم القدرة على الكلام بشكل جيد، وهذا ما جعله ينكبّ على القراءة، فكان ابن الحياة وشاعراً سابقاً لجيله في كل ما يكتب، وأكد جعفر أنه تعرّف على كبار شعراء العالم مثل رامبو ولوركا من خلاله، وكان نافذته على الأدب العالمي، ومدخله إلى ثقافات العالم، متوقفاً في كلامه عن الحسين عند مرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى في حلب عام 1975، وكان سبّاقاً بالنسبة لجيله لكثرة قراءاته، وفيها أصدر ديوانين كتبهما في حلب: الأول “خراب الدورة الدموية” الذي صدر عن وزارة الثقافة، وكان مفاجئاً للمشهد الشعري، وفيه عبّر عن طفولته المعجونة بالألم، فكان حصيلة موته اليومي، والقهر الذي كان يعيشه من شدة الفقر، والثاني “أساطير حية” وفيه ظهرت ملامح نزيه أبو عفش ومحمد الماغوط في شعره، مبيّناً أن الحسين في عام 1977 انتقل إلى دمشق وفيها تعرّف على أسماء كبيرة في مجال الشعر، فكانت محطته الأبرز، حيث عمل في وزارة الثقافة ومؤسسة الدراسات والبحوث الفلسطينية، فكان فلسطينياً بقلبه ومشاعره، ولم يتكئ على القضية ليكون شاعراً، فنجا من فخ المباشرة بالتعامل مع القضية الفلسطينية بعيداً عن الصخب، وفي دمشق تعرّف الحسين، كما بيّن جعفر، على الحب، ومن أجله حاول الانتحار أكثر من مرة، وبسبب قصة حبه الأخيرة، والجفاء الذي واجهه، ساءت حالته كثيراً، وكانت أحد أسباب رحيله عام 1982، موضحاً أن أشد ما كان يثير في نفس الراحل وصفه بالأبكم، في حين أن لسانه كان يتجاوز صعوبة الكلام حين كان يلقي أشعاره، وأنه، على الرغم من صممه، كانت لديه قدرة عجيبة على قراءة الشفاه.
السيرة العجيبة
وأكد د. حسن حميد أنه قرأ كثيراً عن سير أدبية من كل الأجيال كسيرة جان جينيه اللقيط الذي كان نابغة إلى درجة أن جان بول سارتر قدّمه للمشهد الفرنسي والعالم، وقرأ كذلك عن سيرة بوشكين، وسيرة السياب ودنقل والشابي، وجميعهم أثّروا به، لكن سيرة الحسين هي السيرة العجيبة الغريبة، فبعيداً عن كونه لم يكمل دراسته، تعاونت عليه الأمراض التي كانت تجذبه نحو الورق ليكتب، مبيّناً أن إصداراته قليلة، لكن أهم ما يميزها أنه كان نابغة في سيرته الحياتية الصعبة التي عاشها فقراً وأسئلة وأحلاماً تولد في الصباح لتموت عند الغروب، كما كان نابغة في سيرته الشعرية، حيث كتب قصيدة لا علاقة لها بقصيدة العمود، ومع ذلك أُعجب شعراء العمود والتفعيلة بها لما فيها من همّ إنساني وجمالي، وحين رحل بكاه الجميع ألماً حين خلت الصحف والإصدارات المطبوعة من قصائده التي كانت نوافذ ضوء وثقلاً معرفياً لأية مطبوعة، منوّهاً “حميد”، وهو ابن المخيم، أن الحسين ابن ريف حلب كان يشبه شعراء المخيم الذين ولدوا في أفران من الحزن الأليم، ويحلمون بالكتب والموسيقا والأغاني والمسرحيات واللوحات، وأي شيء يزينون به حياتهم ليخفوا به مثالب الحياة وشقوقها، ورأى حميد أن سيرة شعره والجمال الذي تتمتع به قصائده سببها مواقفه الإنسانية النبيلة، وتساءل حميد: لماذا لا تُدرّس قصائده في مناهجنا الدراسية؟ ولماذا لا يهتم الأكاديميون في جامعاتنا بتجربته لتكون موضوعاً للرسائل العلمية في الماجستير والدكتوراه؟ ولماذا لا يحشد أنصار قصيدة النثر وكتّابها قدراتهم ويخصونه بملتقى سنوي بصفته واحداً من الذين كتبوا قصيدة النثر في حضرة شعراء كبار كانوا نجوم المشهد الشعري في سورية في عقد السبعينيات؟.
كائن معرفي
وبيّن د. راتب سكر أنه ما إن نشرت صحيفة سورية قصيدة للحسين بعنوان “أقمطة ونياشين وولعات” حتى لفت انتباه كل من يهتم بالأدب والقراءة، وسرعان ما أصبح المهتمون بالثقافة منشغلين بهذا الشاعر الذي لم يكن قد طبع ديوانه الأول، والسر هو أن الحسين برأيه كان كائناً سردياً ومعرفياً في كتاباته، وكانت زوّادته تاريخ العالم وأرصفته، فمدته هذه العدّة ذات الطوابع العالمية بالقدرة على الإدهاش وتقديم كل ما هو مختلف، فكتب عن جوهر قضية الإنسان العربي، ولكن بمنظوره وأسسه الفنية، وكان سريالياً في سلوكه وشعره، ومتمرداً دائماً، ولا ينسى تمرده سطراً واحداً في كتاباته، وفي وقت كان الكثير من المثقفين العرب غارقين في أحياء ضيقة، ومهمومين بقضايا صغيرة، إذا به يبرز في الثقافة وكأنه يحمل الدنيا على كتفيه، ويهدي ديوانه الأول إلى الدنيا متحدثاً عن القارات الخمس وكأنها حارته، وهو الذي لم يدرس ولم يسافر.
أمينة عباس