حقائب العمر
سلوى عباس
هذا الصوت المنبعث من كل مكان يملأ الأماكن بحضور سحري، يملؤها ضجيجاً وصخباً يسكت الملل ويتدفق هادراً يحكي صداه في المسامع والآذان، فعندما يرتفع صوتك ويرتد إليك الصدى وما من مجيب، وعندما تقف على ضفة تنادي آخر على ضفة أخرى فتكتشف أنك تمد يدك للسراب، لأن هذا الآخر يعيش في عالم مختلف عن عالمك، تكتشف أنك شخص مفرد في حياة تحكمها غايات قد لا تمتلك مقوماتها، فينفضّ عنك من لا يجدون لديك ما يستفيدون منه، فتنكفئ على نفسك مهزوماً في واقع مقنّع بقيم مزيفة تسعى لتغييره علّك تجد فيه مكاناً لك، فترى نفسك تنظر في مرآة متشظية لا تعكس إلا روحك التي هشّمتها حياة جرجرتنا جميعاً في متاهاتها، وأفقدتنا إنسانيتنا بلهاثنا وراء لحظة هاربة من عمرنا للإمساك بها، دون جدوى، فنرى أننا من العدم أتينا وإليه نعود، ويدنا مطبقة على غبار في انتظار ميلاد آخر للحياة، لن تلمح في المرآة ما تلمحه في وجه صديقك، لذا ستبتعد عنه وأنت تقول في نفسك مستغرباً: كم يبدو متقدماً في العمر! كيف انحسر شبابه، وغدرته صحته ونضبت نضارته؟ هل السر بك؟ في قوة روحك؟ أو فيمن تحب وفيما تعمل؟ ما هو زادك الذي تقتات به كي تمسك بعمرك وتحافظ على صلابة قامتك؟ ما الذي تحمله في حقيبة عمرك؟ فقد مررت مثل صديقك بمراحل الطفولة والطيش والنضج وكنت بكامل أعضائك، يكسو عظامك الجلد، وتغذي جسدك الأوردة، هل مازالت علبة الكبريت التي تحملها في جيبك عامرة بأعواد الثقاب، وبإمكانك في كل يوم جديد أن تشعل عود ثقاب آخر تواجه به الحياة؟.
يقول الكاتب الأمريكي وندل هولمز: “إن الإنسان، كل إنسان بلا استثناء، إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة: الإنسان كما خلقه الله، والإنسان كما يراه الناس، والإنسان كما يرى نفسه”، فلا تستغرب أن يراك صديقك كما رأيته، لا كما أسرّت إليك به مرآتك هذا الصباح، فصوتك الداخلي يبدد كل صفارات الإنذار التي يطلقها التقدم في العمر، والسر في ذواتنا لأننا نرفض كل ما يجعلنا خارج دائرة الضوء، فنتشبث بعاداتنا الطفولية والشبابية، ونميل أكثر لمجاراة الموضة وإن كانت لا تناسبنا، وسنميل أكثر إلى إشعال أعواد الثقاب، فنحن نحب أن يرانا الآخرون كما نرى أنفسنا، أو كما تقول لنا مرآتنا.
لا شيء يمكنه وقف حزني الدافئ.. لا شيء ينقذني من ذاكرتي التي تسيل مبللة كل شيء حتى الريح.. الريح تبللت، وحان وقت السقوط من أعلى.. السقوط الذي يحتاج إلى أكثر من روح ليحلّق قليلاً قبل الموت والتحطم.. الموت الذي يحتاج لأكثر من حياة ليشفى من وحشة الطريق الأخير.. الطريق الذي أصبح مجرد ذكرى يابسة في عقل متوقف عن التخيل والحب.. الحب الذي لم نتعلّم بعد أسر عطره في عنق الزجاجة، والمضي بعيداً عن الآخر مع الزجاجة!.. الحب الذي لم نتوقف لحظة عن طرح أوراقه البنفسجية في تلك الريح، جاعلين العالم بنفسجياً وأرواحنا كذلك.
الفرح الذي عم حتى صار تياراً من الحزن الدافئ يتبعنا في كل مكان من المدينة التي اتصل صباحها بغروبها، لدرجة أن يمر الغروب دون أن يلتفت أحد إلى الشمس مودعاً.. ودون أن ينم ثغر عن ابتسامة!!