عن الدعم وشجونه.. الارتجال لا يزال سيد الموقف.. وتحذيرات من خطورة التجارب
دمشق- رامي سلوم
تشير التصريحات الحكومية الخاصة بتحديد شرائح المستفيدين من “المواد المدعومة” إلى ترنحٍ في تحديد السياسة الاقتصادية المتّبعة، وفقاً لمختصين وخبراء اقتصاديين، الذين يؤيد بعضهم سياسة التخلّص من الدعم وما يبنى عليه من تشوهات اقتصادية، ولكن ليس بهذه الطريقة التوفيرية والتي لا تضيف شيئاً للواقع الاقتصادي المشوّه سوى مزيد من السلبيات والضغوط.
ولفت الخبراء إلى أن الإشارة لتقليص نسبة المستفيدين من الدعم بنحو 25%، قبل إنجاز الدراسات والتقاطعات المطلوبة، والتي وردت في أحد الكتب الرسمية “المسربة”، تؤكد أن النية توفير مبلغ مالي محدّد من النفقات، بمعزل عن الأضرار التي قد يشكلها ذلك على الحركة الاقتصادية عموماً، وعلى أصحاب المنشآت الصغيرة والمتوسطة خصوصاً، وحماية اقتصاد الظل وتسويقه.
وفي الوقت الذي أكد بعضهم أن الإجراء الحالي يمثل نوعاً آخر من الارتجال، والتجارب الاقتصادية الخطرة التي اعتادت عليها الحكومة والحكومات المتعاقبة، والتي تتحمّل بشكل أو بآخر مسؤولية ما بات عليه الواقع الحالي، بالتوازي مع الحصار والحرب الاقتصادية الجائرة على سورية، تؤكد مصادر أن التفكير بتعديل سياسة الدعم موجود منذ سنوات، وأن دراسات كبيرة وحقيقية تمّت بهذا الخصوص.
أعدها 40 خبيراً
ووفقاً لمصادر “البعث” فإن دراسة حكومية شاملة أعدّها نحو 40 مختصاً على مستوى معاوني وزراء ومدراء عامين في العام 2013، خلصت إلى توزيع 125 ألف ليرة سورية شهرياً لكل أسرة، مقابل شطب الدعم الحكومي عن المواد الأساسية، فيما كان يُعرف وقتها بسياسة استبدال الدعم.
وأكد الخبراء، أن استبدال سياسة الدعم الحالي بالدعم المادي المباشر كانت تستحق الملاحظة، كونها تشكل إطاراً للحفاظ على الموارد، وترشيد الاستهلاك من خلال تحرير الأسعار، وبالتالي التخلّص من الهدر، التي بقيت حبيسة الأدراج وقتها، حيث تريث رئيس الحكومة في إقرارها ولم تأخذ طريقها إلى التطبيق، على الرغم من لحظها لكافة التفاصيل المعيشية وكلف المحروقات وغيرها.
دراسة
ومن جانبه، كشف الخبير الاقتصادي الدكتور علي كنعان، عن دراسة مبدئية لرفع الأجور والرواتب بمتوسط 100%، بما يعادل 100 ألف ليرة تقريباً، مقابل إزالة الدعم كاملاً، وذلك كمرحلة أولية ليتمّ دراسة زيادات أخرى وفقاً للمتطلبات المعيشية بعد تحرير السوق، وعودة الاقتصاد إلى السكة السليمة، موضحاً أن سياسة الدعم أدت لاقتصاد مشوّه، فلا أسعار حقيقية ولا أجور حقيقية ولا رواتب حقيقية ولا غيرها، بل جميعها تُحدّد بطريقة إدارية، وهو ما يخلق التشوهات بين الأجور وبين التكاليف المعيشية.
دعم الاقتصاد
واعتبر كنعان أن الآلية التي تمّ طرحها من خلال الدراسة غير مجدية، وليس لها ممارسة استرشادية في أي دولة في العالم، وستخلق مزيداً من الثغرات، لافتاً إلى أن توجيه الدعم للاقتصاد الحقيقي يمثل الحالة الصحية من خلال دعم المصدّرين، وهو الأمر الذي مارسته بعض الاقتصاديات العالمية التي كانت منهارة سابقاً ووصلت إلى اقتصاديات كبرى، والتي منحت فوائد على التصدير تُقدّر أعلاها بنسبة 16% لتشجيع التصدير، مقابل رقابة عالية على الأسعار وعلى تحقيق فرص عمل من قبل المصدّرين للمجتمع، وبالتالي تنشيط الحركة الاقتصادية.
وأضاف كنعان أن السماح لمن يرغب بالاستيراد، وتحرير سعر الصرف في السوق، سيمنح الاقتصاد فاعلية ويمنع الهدر ويخلق منافسة في الجودة والسعر، مشيراً إلى أن الدولة تدعم المستوردات بالدولار، مقابل تسعير المواد والسلع من قبل التّجار بسعر دولار السوق السوداء وهو ما يهدر الإمكانات من دون استفادة المجتمع منها، وتبقى الاستفادة بأيادي حفنة من التّجار!.
350%
وأشار كنعان إلى أن الأرقام تشير إلى أن كلفة الدعم السنوية تصل إلى 5.5 تريليون ليرة، وتشكل كتلة الأجور والرواتب 1600 مليار ليرة، وبحساب بسيط يمكن زيادة الأجور 350% في حال إزالة الدعم، والذي سيحصن الحفاظ على الموارد من خلال منع التهريب، وسيفعل السوق ويزيد الإنتاجية، لافتاً إلى أن بإمكان الحكومة فرض قروض إجبارية بقيمة 10% من أرباح الشركات الخاصة واستثمارها في البنى التحتية وعدم هدرها بالدعم، وبالتالي فإعادة شبكة الكهرباء على سبيل المثال ستؤدي إلى تنشيط الحركة الاقتصادية من خلال تلك القروض الملزمة، التي ستلتزم الدولة بإعادتها، وهو ما تمّ في بعض الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.
تخفيف نفقات
واعتبر الخبير الاقتصادي زكوان قريط أن السياسة الجديدة تشير إلى توجّه لتخفيف النفقات وليس توجيه الدعم، مشيراً إلى أن التمادي في الارتجال قد يؤدي لموت بذور ريادة الأعمال الجديدة، مبيناً أن المشروعات متناهية الصغر تمثل عماد الاقتصاديات العالمية، والتي يتمّ بترها من خلال قصر النظر ببحث امتلاك سيارة ومسكن وغيرها، حتى ولو كانت معلومات بقصد أن يؤدي تقاطعها إلى نتائج وفقاً للتصريحات.
زلات.. وإحجام
وأشار قريط إلى أن اللجنة الاقتصادية وقعت في العديد من الزلات، مبيناً أن الواقع الاقتصادي لا يحتمل خضة جديدة، ولابد من دراسة شاملة، وواضحة، تحصن مجتمع ريادة الأعمال وتخلق بيئة إيجابية محفزة للعمل، لزيادة الإقبال على التوظيف ورفع الأجور، خاصة وأن غالبية المشاريع تحتاج وقتاً لتصل مرحلة الإنتاجية، فضلاً عن استعادة القيمة الاستثمارية لها.
وتخوّف قريط من أن تؤدي السياسات الجديدة إلى الإحجام عن الاستثمارات وخصوصاً الصغيرة، فيما عدا الاستثمار في العقار أو غيره، كونه قد يشكل خسائر للمستثمرين، ونقصاً في حقوقهم (المكتسبة)، وبالتالي اللجوء لحفظ أموالهم في المنازل وبالعملة الصعبة بعد الممارسات غير الصحية من المصارف، ما سيقلّص النقد في السوق، والذي يعدّ من أهم أسس النمو والحركة الاقتصادية.
شماعة الدعم
وأكد قريط أنه لابد من التخلّص من شماعة الدعم المهدور أساساً، ولكن من خلال استبدالها بمفهوم اقتصادي وخطة اقتصادية شاملة، تزيد معها الأجور بشكل حقيقي، فالموظف على سبيل المثال يستحق أجراً عادلاً وليس معونة. وبيّن أن الخطط الاقتصادية المعلنة، والتي خلقت كماً من التضاربات في الآراء لدى الجمهور من خلال شدّ الحبال كُلّ لمصلحته، تشير إلى خلق حالة من اللهاث وراء الدعم، وبالتالي التلاعب بالبيانات، في بيئة خصبة لتلك العملية، لتحصيل قيم الدعم التي تعدّ ضحلة بمقارنة أي حالة من النمو الاقتصادي ولو بنسب بسيطة. وأوضح أنه من المدافعين عن إزالة الدعم، غير أن فقدان المنظور التنموي يوحي بمخاطرة حقيقية، لافتاً إلى أهمية وجود خطط بديلة سريعة التطبيق مبنية على دراسات واضحة ومحققة لها كامل الإمكانات لتطلق في خلال ساعات، في حال لم تؤدِ الخطط الحكومية مبتغاها، أو بما يمكن وصفه بعدة سيناريوهات للحل، وعدم الوقوع في الفخ نفسه مرة أخرى والانتظار لإنجاز دراسات جديدة قد تخطئ أو تصيب.
تصريحات عاطفية
ولا تزال التصريحات الحكومية تسير باتجاه تأجيج عواطف الشرائح الأقل حظاً مادياً، وخصوصاً الموظفين، من حيث الإيحاء بأن سياسة تقليص الدعم ستعود بالنفع عليهم، وكأنها تستجدي مؤيدين للسياسة الجديدة، مستفيدة من عدم تقديرهم الكامل لما يمكن أن تفرزه المعطيات الجديدة، وفقاً لخبير اقتصادي لم يرغب بالكشف عن اسمه.
وأفاد الخبير بأن الوعود بزيادة الرواتب واحتفاظ هؤلاء بالدعم الحكومي لم يذكر توسيع نطاق التضخم المتوقع جراء مثل هذه الممارسات، والذي ستعجز الوزارات التي تدّعي امتلاكها الدور الرقابي عن تقنينه، مبيناً أن أصحاب التصريحات عاجزون حتى اليوم عن ضبط وزن ربطة الخبز، ومنع تهريبها للسوق السوداء، وضبط أسعارها لدى المعتمدين، فضلاً عن غيرها من المواد، ولذلك فإن تصريحاتهم في هذا الخصوص بعيدة عن الواقع.
وتساءل الاقتصادي، هل ستتناسب قيمة الزيادة في المعاشات مع قيمة الدعم؟ وهو الشيء المستبعد في ظل اللجوء الواضح إلى سياسة التحصيل من قبل الحكومة، مبيناً أن الشريحة التي سيتمّ استبعادها من الدعم، ستضيف فاتورة الدعم على السلع والخدمات التي تقدمها، كونها ضمن المصروفات المعيشية التي لابد أن تلبيها الأعمال التي يقومون بها، وهو ما سيزيد معدلات الأسعار من دون القدرة على تحجيمها بوصفها باتت حقاً معيشياً لهؤلاء.
فيما طالب خبير اقتصادي آخر، لم يشأ الإفصاح عن اسمه أيضاً، بابتعاد اللجنة الاقتصادية عن الشعبوية في طروحاتها، والاتكال على تأييد الشرائح الأقل حظاً والتي تمّ التغرير بها بحجم المنافع التي قد تصلها من خلال حجب الدعم عن شرائح أخرى، لخلق بيئة مؤيدة للقرار، ستصدم لاحقاً بالنتائج، خصوصاً مع ارتفاع كلف وقيم السلع والخدمات في ظل توجّه أصحابها لتعويض كلف المعيشة، خاصة وأن حجب الدعم عنهم لم يترافق مع محفزات اقتصادية تعزّز أعمالهم بصورة حقيقية.
من جانبه، أشار الخبير في إدارة المخاطر ماهر سنجر إلى أن المعايير المتّبعة في تقليص الدعم مشوّهة، ولا تمثل سوى مزيد من الجباية، مشيراً إلى أن المنشآت الصغيرة والمتوسطة تعاني بشدة في ظل عقبات الحصار الجائر، وتداعيات فيروس كورونا، والذي يمهد لإغلاقات عالمية جديدة ستؤدي فعلها اتجاه الاقتصاد السوري.
ولفت سنجر إلى أهمية تقدير المرحلة التي تمرّ بها البلاد حالياً، غير أن الدراسات الحكومية تثبت غالباً قصورها، وبناءها على قرارات سابقة لتحوير الدراسة بما يخدم القرار وليس العكس، لافتاً إلى أن تقارير دولية أشارت إلى أن نحو 87% من السوريين تحت خط الفقر العام، وبمعزل عن تسييس تلك الأرقام وعدم الإيمان بمصداقيتها المطلقة، غير أنها تشكل رصداً ولو بسيطاً للواقع، مستغرباً توقع جهات حكومية إزاحة 25% من المستفيدين من الدعم، في ظل وصول الشريحة المعوزة إلى نسب أعلى من 75%.
بيانات
وطالب سنجر بالعمل على دعم النمو والتنمية الاقتصادية، لتضمحل الحاجة إلى الدعم شيئاً فشيئاً، مبيناً أن هناك العديد من الفجوات في المعلومات والتي لا يمكن البناء عليها إطلاقاً في السوق، خصوصاً من حيث نسبة العاطلين عن العمل، مع عدم تسجيل الفعاليات لعمالها، وما تدرّه العمالة البسيطة واقتصاد الظل من دخل يكاد ينافس المنشآت الصغيرة، غير أنه يبقى مستحقاً للدعم على الرغم من كونه من غير المكلفين الضريبيين، ولا يستثمر أي عقار، ولا يدفع قيم استهلاك وكهرباء ورسوم بلدية وغيرها، وبالتالي يبقى الدعم مشوهاً، وفي غير مكانه الصحيح.
وأكد سنجر أن غالبية البيانات تشير إلى سنوات مضت وفي ظل التغيرات الضخمة المرحلية التي تمرّ على الاقتصاد السوري، ما يجعل التفكير بنتائج إحصائية والبناء عليها بعيداً عن الواقع، ولا يمكن الاعتماد عليه خصوصاً في ظل الظروف الصعبة التي يمرّ بها الواقع الاقتصادي وأصحاب ريادة الأعمال إجمالاً.
اقتصاد الظل
أمام هذا المشهد وضبابيته، يشير بعض الخبراء إلى أن الانشغال بفرز المستحقين للدعم من غيرهم، سيعزّز اقتصاد الظل الواسع أساساً، ويدفع العديد من أصحاب المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر لدخول هذا النوع من الاقتصاد حفاظاً على حقوقهم المكتسبة، وستعجز الحكومة كما في غالبية الإشكاليات والمخالفات عن ردع الظاهرة، لافتين إلى أن دخول اقتصاد الظل وحده في الاقتصاد الحقيقي كفيل بتحقيق الوفر المطلوب للحكومة، غير أن الغالب على القرارات الحكومية هو ثقافة الاستسهال والجباية من دون أن تسعى لتنظيم اقتصادي حقيقي.
وفي ذات السياق، يعتبر البعض أن وجود الدعم يشكّل عائقاً أمام التنمية، والمطلوب هو استبداله بكتلة مالية توفر حاجة الأشخاص، ريثما يتمكّن السوق من التعديل الذاتي، ويكون قادراً على استقطاب العمالة، وزيادة الأجور بالتوازي مع النمو المحقق. وأشاروا إلى أن الطبقات المعوزة أو الأقل فقراً يتمّ دراستها وفقاً لمعايير وزارة الشؤون الاجتماعية للمساعدات، ومن غير المقبول أن يعتبر الموظف معوزاً ومشمولاً بالدعم، في الوقت الذي من الأجدى رفع دخله لتخليصه من حالة العوز، ولاسيما إذا ما علمنا أن المواد المدعومة ليست بالجودة المطلوبة، وذلك وفقاً لتأكيدات مصدر في وزارة التجارة الداخلية، والذي أشار إلى أن التدخل في أنواع المنتجات، بفعل البيروقراطية الحكومية يؤدي إلى وجود أصناف غير ملائمة وبأسعار منتجات أخرى أكثر ملاءمة في حال ترك المجال مفتوحاً للمستوردين، ومن دون عوائق، ومع تسهيلات إضافية، مقابل ضبط سعرها فعلياً، مبيناً أن التوجّه إلى التحكم في كيفية إنفاق الأشخاص لأموالهم أمر غير مفهوم، ويلمح إلى ضعف في المعرفة الاقتصادية.