اقتصادصحيفة البعث

زيادات الرواتب.. بين الأمل بها والعمل لها

منذ عقود مضت وزيادات الرواتب تشكّل الهمّ الدائم المتتابع لشريحة العاملين في الدولة، ويندر حصول أية زيادة إلا بعد أن تستفحل الأسعار بشكل كبير، لا قبل أن ينذر بوجوب حدوثها، وغالباً كانت تأتي دون طموحهم المرغوب والمأمول، وما إن تمضي أشهر قليلة على أية زيادة إلا وهضمتها أسعار السوق المتوالية الازدياد، ما يولِّد المطالبة الملحة مجدداً بضرورة حصول زيادة جديدة!.

حقيقة الأمر أنه ما من زيادة قد حصلت، بل إن ما كان يحصل ما هو إلاّ إضافات على الرواتب لتكون بمثابة تعويض جزئي ليغطي بعض التزايد الحاصل في زيادة الأسعار -ما سبق منها الزيادة وما سيعقبها مباشرة- بدليل أن ما من زيادة أسفرت عن زيادة القوة الشرائية لليرة، إذ أن انخفاض القوة الشرائية لليرة، كان متواكباً مع الإضافة الحاصلة على الراتب، ما يؤكد عدم تحقق زيادة فعلية.

وبمقارنة حسابية بين الرواتب سابقاً وحالياً، يتوضح العديد من الأمور الاقتصادية المؤسفة، فراتب الشهادة الجامعية المقطوع عام 1975 كان 375 ليرة سورية لأول تعيين، ويوم ذاك كان يشتري 75 كيس اسمنت، أو 1000 بلوكة اسمنت، أو 100 كيلو لحم، وكان يسمح بقرض لمصلحة بناء مسكن، ويسمح بتسديد هذا القرض، أي أن القوة الشرائية له يومها أفضل بكثير من القوة الشرائية لراتب الشهادة الجامعية اليوم، الذي هو لأول تعيين بحدود 80000 ليرة، ولكن هذا الراتب الضخم -قياساً بالراتب القديم- لا يشتري الآن إلاّ 7 أكياس اسمنت فقط، أو 80 بلوكة بناء، أو  5 كلغ لحم!.

كذلك راتب اليوم يسمح باستجرار قرض، ولكن هذا القرض لا يكاد يفي بتكاليف رخصة المسكن، والحاجات الاستهلاكية لا تسمح بتوفير قسطه الشهري من الراتب، وهنا يصح القول: “ما أهينك يا دين وما أصعب وفاك”، وتصح هذه المقارنة النسبية بين راتب أيام زمان وراتب اليوم لمئات المواد الغذائية والكسائية والبنائية والمنزلية، والحال نفسها لكل راتب وما تلاه من إضافة عليه، وبالتالي من الخطأ القول بزيادات الرواتب، بل الأصح إنها إضافات على الرواتب، ومع ذلك تبقى هذه الإضافات ذات أثر إيجابي نسبياً.

قبل أشهر قليلة من هذا العام، حدثت آخر إضافة على الراتب، إثر ارتفاع كبير في الأسعار، وكالمعتاد أعقبها مباشرة تتالي ارتفاع الأسعار، ما تسبّب عاجلاً بمبررات المطالبة الملحة بإضافة جديدة على الراتب، ونعيش الآن تعدّد التصورات والتخيلات والأمنيات بحجم ونسبة هذه الزيادة، حتى أن بعضهم يطالب بأن تبلغ الإضافة خمسة أمثال الراتب الحالي، لكي تغطي قوتها الشرائية القسم الأكبر من معظم الاحتياجات، وحقيقة الأمر ما من مبالغة في هذه المطالبة، وأنا أؤيدها، بل هي مطالبة محقة وواجبة الإحقاق، ولكن واقع الحال يجعل من الجائز استعراض المثل الذي يقول: “مجنون يحكي وعاقل يتفهم” هذا الواقع يفرض ألاّ يغيب عن البال، أننا اقتصادياً على الحصير، ولسنا على فراش وثير، فهل يفرض هذا الواقع العمل بمقولة “مُدَّ رجليك على طول حصيرك”، ومقولة إذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع؟!.

ألا يوجب أن يتفكر كل منا من أين ستأتي الحكومة بالمبالغ المطلوبة لتأمين هذه الإضافة المطلوبة، في ظل الموارد المالية القليلة المتوفرة للحكومة، فالدخل المتحقق عن استثمارات الموارد الطبيعية -وتحديداً النفط والغاز- قليل جداً، إذ لا يزال معظم أمكنة هذه الموارد تحت سيطرة الإرهاب، وحتى تاريخه لم يتمّ استثمار الآبار النفطية والغازية الجديدة التي تمّ الإعلان عن اكتشافها في المناطق المحررة، ولم يتمّ حفر آبار جديدة في المناطق الساحلية المجمع على وجود الغاز والنفط فيها. ومعروف أن قسماً كبيراً من الميزانية مخصص لشراء المواد النفطية من الخارج، وهل يخفى على أحد أن عائدات المنشآت الإنتاجية الحكومية قليلة جداً، لأن نسبة غير قليلة منها مدمرة أو متوقفة كلياً أو جزئياً، في ظل خطوات حكومية لا تزال وئيدة باتجاه الإجراءات الكافية لاستنهاض الإقلاع بها.

ألا نرى الانخفاض الملحوظ منذ سنوات في نسبة الإنفاق الاستثماري من الميزانية العامة، والذي يؤدي بدوره إلى انخفاض العائدات المتحققة للحكومة، وجميعنا نعلم أن وزير المالية أعلن، قبل فترة وجيزة، أن اعتمادات موازنة العام القادم توزعت إلى 11325 مليار ليرة نفقات جارية، وألفي مليار نفقات استثمارية، ولا يخفى على أحد ماهي المشاريع الاستثمارية القليلة التي يمكن إنجازها بألفي مليار، ومتى ستكون في الإنتاج الفعلي الذي يدرّ دخلاً يدعم الميزانية، عدا عن الفساد المستشري الذي يضعف عائدات ما هو موجود من مشاريع استثمارية تعمل.

أليس الجميع يلاحظ أن الحكومة تسعى منذ سنوات لرفع أسعار بعض المواد، قبل وبعد أية إضافة حصلت على الراتب، كي تمكن نفسها من تسديد قسم من الإضافة الحاصلة، ألا نرى جميعاً الإجراءات المماثلة المتواكبة والحثيثة التي تقوم بها الحكومة هذه الأيام -بما في ذلك زيادة الضرائب والرسوم- للتحضير للإضافة المقبلة، وبالتالي ما هي الفائدة من الإضافة المرتقبة إذا كانت على شاكلة ما سبقها، وما على الشعب الصامد الصابر، إلا أن يتحمل نتائج تراكم سياسات اقتصادية غير حكيمة أو خاطئة أو متعمدة منذ سنوات، أوصلتنا إلى ما نحن به الآن، والمؤسف أننا لا نزال نعيش شيئاً من ذلك، ويبقى الأمل مفتوحاً على حصول مستجدات قد تمكن الحكومة من تحقيق ما يتوخاه الشعب، جراء حصول سياسات اقتصادية حكيمة تنبئ بالخير، والخطورة قائمة من مدّ الأيدي إلى احتياطي المصرف المركزي، أو الاستدانة بشكل أو بآخر مع ضعف الإمكانات بِردِ الدين لاحقاً، فزيادة الرواتب مطلب حق، ولكن العمل على تحقيق حصولها فعلياً وبأيسر الطرق هو الأحق.

عبد اللطيف عباس شعبان- عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية