صديقي الفنان التشكيلي!
حسن حميد
ها هو صديقي الفنان التشكيلي يفتح قلبه لي كي أرى أحزانه تمشي (على حلّ شعرها) من مكان (ظنّه دافئاً) إلى مكان ظنّه أكثر (راحةً وأمناً)، وكي أعيش ما غمّه وهمّه!.
ها هو صديقي الفنان التشكيلي، خريج أشهر بيوت الفن التشكيلي، وراسم أشهر اللوحات الفنية التي لفّتها الآهات، وارتبك البصر حين رآها، واختلج العقل حين وعاها، وأخذتها الأيدي، في أيام العزّ، إلى أهم البيوت والدارات والمتاحف المهمومة بجديد الفن التشكيلي وإبداعاته.
ها هو يقول لي، ولم تصل به الأيام إلى خريف العمر بعد، إنني وحيد، أعيش وحيداً، وأرسم وحيداً، أواقف المرآة صباحاً لأقول لصورتي صباح الخير، صباح الألوان، وأواقف المرآة مساءً لأقول لصورتي: ليلة سعيدة.. وأنام. لا أحد يسأل عني في السنة الواحدة سوى مرتين، وبمناسبتين بتُّ أحفظهما وأعرفهما، مناسبة معرض الفنانين التشكيليين السنوي، في شهر تشرين الثاني، ومناسبة معرض الأرض الفلسطيني في شهر آذار، وكنت أفرح بهما، أشعر بأنهما هما ما تبقى لي من تعالق جميل مع الناس في المناسبات الفنية. هذا العام مرّ زمن المناسبتين، ولم يتصل بي أحد، لم يقل لي أحد شيئاً، لم يسألني أحد إن كنت أودّ المشاركة في المناسبة أم لا، فاكتملت دائرة حزني وامتلأت بالعتمة الغامقة. ولم يبقَ لي من علاقة بالفن سوى أمرين اثنين القراءة عنه، وعن أعلامه ومدارسه، والرسم، أو قل مناوشه الرسم، فأنا أذهب أحياناً إلى اللوحة ولا خطا في قدميّ، ولا ناده يصرخ في عقلي، ولا جماليات تراقصني. لا أحد لي، صدقني لا أحد يقول لي: كيفك برهومه؟! أو لعلّي متُّ وأنا لا أدري، أو لعلّي نمت وأنا أعيش سنوات موتي التي تمرّ بلا ندى، بلا صباحات، بلا أزهار، بلا تحويم لنحل أو فراش، بلا غيوم في المساء، بلا شفق أو غسق.
قلت لصديقي الفنان أنت غنيّ عن كلّ هذا، وأنت حيّ، ومعافى، يكفي أنك تقرأ، والقراءة زيارة للينابيع، ورواء مدهش لا تعرفه إلا الأرواح السّامية، ويكفي أنك ترسم، أو تناوش الرسم، فهذا آية ُمعرفة الدنيا وناسها والطّباع وأحوالها، آية ُالولوج إلى الدواخل المحتشدة بالأسرار. كثيرون يأتون إلى الدنيا، وهم لا يعرفون جمالها؛ أنت ما زلت في دارة الجمال تتذوق الطعوم الآسرة، وتعرف الأسرار واعلم أن فنان الإغريق الفذّ بجماليون، كان مثلك تماماً، ولعلك اليوم تبدو وريثه تماماً. لقد عاش وحيداً، عزف عن الزواج من أجمل جميلات جزيرة قبرص، وعاش في إسطبل قديم، قل في كوخ قديم، هيّأه على عجل، فوق هضبة تطلّ على البحر، لا جوار له من الناس أو البيوت، وقد أحاطت بمنزله كتل الرّخام المنحوتة، والحجارة الناطقة وقد شفّت بمعانيها وهيئاتها التي صارت عليها، مثلما أحاطت بها أجران الطين والفخار، وجذوع الأشجار الهائلة بجمالها، وقد جعلها كائنات تكاد، لولا الحياء، تنطق، وهي على أشكال متعدّدة لرجال ونساء وأطفال، وحوريات، ودلافين، وثيران، وذئاب، كان سعيداً بها، صحيح أنها لا تتحدّث ولكنّها كانت تصغي إليه. كان الناس يأتون إليه، كي يبيعهم ما ملّ النظر إليه من كتله الفنية، ثم يعوّضها بمنحوتات جديدة، وكان سعيداً!.
أتعرف لماذا كان سعيداً، يا صديقي؟ لأنه لم يغادر الفن، ولم يغادر الانتماء إلى عالم الجمال، ولأنه وعى أن العمل هو الحياة، وأن الحذق هو أهم ما يميّز الإنسان، أتعرف يا صديقي، أنه حاز على أهم ما في الحياة: الفن، والانتماء، والوعي، والعمل، وحالك هي حاله، فلا تيأس.. أرجوك!.
Hasanhamid55@yahoo.com