دراساتصحيفة البعث

هدية أمريكا المسمومة!

هيفاء علي

زعمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أنها قدّمت نحو 3000 طن من بذور القمح عالية الجودة للمزارعين في الجزيرة السورية مع بدء موسم زراعة القمح، حيث يعتبر القمح النخاع الشوكي في دائرة الزراعة السورية. وبحسب الوكالة الأمريكية فإن هذه البذور ستسمح لمئات المزارعين بإنتاج نحو 32000 طن من القمح العام المقبل.

ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى تمّ الكشف عما خفي خلف هذه الهدية، فقد أظهرت اختبارات المعامل التابعة لوزارة الزراعة السورية في 23 تشرين الثاني الماضي أن العينات المأخوذة من البذور ملوثة ومصابة بنوع من الديدان الخيطية المدمرة للمحاصيل المستقبلية، وأن هذه البذور ليست تركية، بل من أصل أمريكي.

لقد دخلت البذور منطقة الحسكة عبر الحدود التركية، وأظهرت النتائج تلوث نحو 0.3٪ بطفيلي من عائلة “النيماتودا”، وهو مرض يقتل التربة بعد موسم أو موسمين. بمعنى أنه بالإضافة إلى كل جرائمه بما في ذلك سرقة صوامع الحبوب والزيوت، يسعى المحتل الأمريكي الآن إلى تدمير التربة السورية من خلال هذه البذور الخطيرة.

في هذا السياق، أفادت وسائل الإعلام العالمية عن نقل بنك البذور الذي لا يقدّر بثمن من مركز إيكاردا في حلب، حيث تمّ تهريبه إلى أرخبيل “سفالبارد” في النرويج بعد تعرض المبنى للهجوم من قبل الإرهابيين الذين انتهى بهم الأمر باحتلاله وتركه في حالة خراب. وكان هذا المركز مخصصاً لحماية المحاصيل في المناطق الأكثر جفافاً، وقد احتوت آلاف عيناته على تراث بدايات الزراعة، حيث إن أولى المحاصيل التي عرفها العالم ولدت في سورية، وأن الفلاح السوري يعيش ويتنفس على إيقاع أرضه منذ فجر الزمان. وما يثير السخرية هو ليس أن الشعوب الأخرى استفادت من هذه البذور السورية، بل إن المستفيدين منها يسعون الآن إلى تلويث الأرض التي ولدتها.

وهذا ما يظهر من مقال نشرته كلية “ييل للبيئة” عام 2018 بعنوان “كيف يمكن أن تساعد بذور سورية التي مزقتها الحرب في إنقاذ القمح الأمريكي”. يقول الكاتب بوضوح إنه لمحاربة الأمراض الفتاكة لمحاصيل القمح، والأمراض التي تفاقمت بسبب الاحتباس الحراري وبسبب الخسارة المقلقة لتنوع البذور في جميع أنحاء الولايات المتحدة، لجأ الباحثون إلى البذور التي تمّت سرقتها من سورية، وعلى سبيل المثال، هناك نوع من الأعشاب التي تنمو على التلال المحيطة بتل حديا في حلب يقاوم قائمة طويلة من أمراض الحبوب. إضافة إلى ذلك، ثبت أن بذوراً أخرى من سورية تقاوم الفطور الخبيثة التي تدمّر نباتات القمح، وبالتالي قد يساعد المزارعين في ولايتي إلينوي وداكوتا على إنقاذ محاصيلهم.

ويضيف المؤلف أنه بعد سلسلة تجارب التعديل الوراثي الناجحة التي اكتملت في نيسان 2018، تقرّر رسمياً إدراج الناجين من هجمات ذبابة “هس” في تربية أصناف القمح الأمريكية من أجل التجارة وتوزيع هذه العشبة على المزارعين الأمريكيين، وبالتالي ليس بعيداً العثور على البذور السورية في الأطعمة التي يستهلكها الأمريكيون. ولكن ما هي العواقب الأخرى على التربة السورية؟.

حقيقة الأمر، منذ الستينيات، أولت الدولة السورية اهتماماً كبيراً بزراعة وإنتاج القمح، ودعمت المزارعين، والاستثمار في الري، وبناء مرافق التخزين، وضمان شراء المحاصيل، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وترسيخ استراتيجية ضمان الأمن الغذائي والاستقلال والاستقرار الاجتماعي والسياسي في الدولة، وبالتالي عندما تقوم الولايات المتحدة بسرقة مثل هذه البذور بعدما فشلت بتحقيق مآربها الخفية من خلال الحرب العسكرية، فإنها تكون قد لجأت إلى استهداف هذه الدعامة الاستراتيجية لاستقلال سورية واستقرارها، عندما تنسحب من المناطق التي احتلتها بطريقة لا شرعية عاجلاً أم آجلاً. وبصرف النظر عن حقيقة أن هذه البذور المصابة “تحرق” الأرض لسنوات بعد موسم أو محصولين، فإن استخدام بعض البلدان في المنطقة لشركات البذور الأجنبية الكبيرة أدى إلى انخفاض المردود، ما أجبر المزارعين على شراء البذور كل عام. وهذا هو السبب في أن بول بريمر، المسؤول الأمريكي المؤقت عن التحالف الدولي في العراق، كان سيصدر في نهاية ولايته، مرسوماً يقضي بعدم قيام المزارعين الأمريكيين بزراعة بذورهم لأن الولايات المتحدة ستزودهم ببذور ذات جودة عالية وأفضل بكثير.

وفي النهاية، تسبّب الجفاف بخسائر فادحة للمزارعين السوريين، بعد سرقة محاصيل القمح بشاحنات كاملة شُحنت إلى العراق أو تركيا، فيما اندلعت حرائق في حقول القمح، كان من المفترض أن يكون هذا التبرع من الولايات المتحدة يهدف إلى ضمان الأمن الغذائي في المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون لتسميم الأرض السورية التي تمّ تسميمها ما يكفي نتيجة استخدام قنابل اليورانيوم المنضب في حربهم المزعومة ضد “داعش”، وحرب المياه التي يشنّها حليفهم التركي على المنطقة الشرقية والشمالية.

ولكن، يبقى الأمل في أن المزارعين في المنطقة الذين تلقوا 2.5 طن من هذه البذور الملوثة، سيكونون قادرين على تحييدها بطريقة أو بأخرى منذ أن وفرت الدولة السورية لهم جميع البذور الأصلية اللازمة لها.