دراساتصحيفة البعث

أمريكا أكبر تهديد للديمقراطية

د. معن منيف سليمان

تعدّ الولايات المتحدة الأمريكية التي تتشدّق بالدفاع عن الديمقراطية وتتحدّث عنها في المحافل الدولية وفي كل مناسبة، أكبر تهديد لها على أراضيها وخارج أراضيها، فهي تمارس ضغوطاً على العديد من الدول لاتخاذ إجراءات غير ديمقراطيه، ضدّ كل من يناهض سياستها، كما أنها تستخدم الديمقراطية شعاراً لتقسيم العالم إلى معسكرات متعارضة، وتحاول تسليحها واستخدامها أداةً لدفع أجندتها الجيوستراتيجية، والسيطرة على العالم تحت ستار الديمقراطية.

ويعدّ التوسّع في الديمقراطية هدفاً أساسياً من أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، وهي استراتيجية تعتمد على التدخل بقوّة في جميع أنحاء العالم لفتح أسواق خارجية، وذلك يعني أن الاستراتيجية هي التوسّع الديمقراطي كآلية لكسب المزيد من الأسواق. ودلّ استطلاع للرأي قام به مجلس شيكاغو للعلاقات الدولية: “أن وجود الأنظمة غير الديمقراطية ليست قضية ضمن المصالح الإستراتيجية العليا للولايات المتحدة”، وهذا يعني أن المصالح الأمريكية هي المحدّد الأوّل للرؤية الأمريكية.

لقد أصبحت الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسية مهدّدة بفعل شعار: “الحرب على الإرهاب”، على الرغم من كونها جزءاً لا يتجزأ من الكرامة الإنسانية التي تسعى فكرة الحفاظ على الأمن القومي إلى حمايتها. وتحوّل هذا الشعار إلى مسوّغ لانتهاك القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان من قبل دولة تدّعي دفاعها عن الديمقراطية والحريات الأساسية وحقوق الإنسان.

وفي ظلّ الموقف الأمريكي من قضايا المنطقة العربية، ولاسيما في ظل دعمها المستمر لـ”إسرائيل”، وغضّ النظر عن انتهاكات “إسرائيل” لحقوق الفلسطينيين، فإن خطة واشنطن لترويج الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان باتت غير مرغوبة، إن لم تكن مرفوضة رفضاً كاملاً من قبل نشطاء الديمقراطية والتنمية السياسية، والمدافعين عن الحريات والحقوق.

وإذا كانت الولايات المتحدة تولي أهمية أساسية للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة بالفعل فإنه ينبغي عليها مراجعة مواقفها وسياساتها تجاه قضايا العرب الأساسية والصراعات الدائرة في منطقتهم.

إن أمريكا كقوة دولية كبرى نصّبت نفسها شرطياً لتطبيق الديمقراطية، بدأت فعلاً بالضغط على الدول التي تراها غير ديمقراطية من أجل الإصلاحات السياسية بهدف التحول الديمقراطي وتعزيز مبادئ حقوق الإنسان على حدّ زعمها. فردّت الدول المستهدفة بمبادراتها الخاصة لتتجنّب التدخل في شؤونها. غير أن الواقع أثبت عكس ذلك، فقد قامت الولايات المتحدة بتبنّي ممارسات الدول التي انتقدتها، وعلى سبيل المثال، نقلت العديد من المعتقلين من سجونها السرية إلى دول تمارس التعذيب. وقد كشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن وجود شبكة سجون سرية في دول مختلفة، من ضمنها دول أوروبية، يحتجز فيها ما يقرب من “مئة ألف شخص” بدعوى ارتباطهم بجماعات إرهابية. وأوضحت أن المعتقلين محتجزون في ظروف بعيدة عن المعايير الدولية لمعاملة السجناء والمحتجزين.

وكان البرلمان الأوروبي قد بدأ تحقيقاً عن وجود سجون سرية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في دول أوروبية، وأصدر تقريراً في 7 حزيران 2006، يتهم 14 دولة أوروبية بالتواطؤ بشكل مباشر أو غير مباشر مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لاحتجاز الأفراد في سجون سرية أو نقلهم بشكل غير شرعي لدول أخرى.

إن أمريكا لا تعرف معنى الديمقراطية الحقيقية وتحاضر فيها حول العالم، في الوقت نفسه تنتهكها على أراضيها، فقد شهدت أمريكا حوادث قتل عناصر من الشرطة الأمريكية من أصحاب البشرة البيضاء لعدد من المواطنين أصحاب البشرة السمراء.

وفي السياق نفسه لا يزال الأمريكيون الأصليون من الهنود الحمر يواجهون التجاهل المنهجي وسوء المعاملة، فعلى سبيل المثال، في عام 2019، رفض مجلس استشاري في ولاية كارولينا الشمالية إنشاء مدرسة جديدة مخصّصة للأمريكيين الأصليين، فقد قال أحد أعضاء مجلس الإدارة إنهم رفضوا ذلك “على الأقل جزئياً بسبب الطريقة التي خطّطت بها المدرسة لتدريس التاريخ الأمريكي”.

إن ديمقراطية تقوم على المصالح والنفوذ والمال هي ديمقراطية منقوصة، كما يؤكد ذلك الكثير من المفكرين والباحثين الأمريكيين. ويقول نيل لويس المراسل الدبلوماسي لصحيفة “نيويورك تايمز” في هذا الصدد “إن الانتخابات التشريعية حتى الرئاسية المعتمدة في البلاد، التي تخضع لاعتبارات عديدة، لا يمكن لأشخاص مهما كانت مكانتهم أن يغيّروا منها”.

وقد كشف التقرير الأخير للمعهد الدولي للديمقراطية ودعم الانتخابات، ومقره السويد، عن حالة الديمقراطية في العالم خلال عام 2021، الذي اتسم بالتشاؤم الشديد. وأعرب المعهد عن قلقه من أن الولايات المتحدة قد سقطت هي نفسها ضحية لنزعات سلطوية، وتحوّلت إلى مجتمع يتّسم بالاستقطاب الشديد ويرفض فيه من يخسر الانتخابات النزيهة، قبول الهزيمة، بل ويسعى إلى نشر الأكاذيب عن “سرقة” الانتخابات.

لقد تحوّلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى دولة شمولية، دولة أمنية من الطراز الأوّل، تفتقد الديمقراطية وتنعي حقوق الإنسان، وتعود إلى التمييز العنصري ضدّ الغير. ووفقاً لاستطلاع للرأي أظهر أن 44 بالمئة من المشاركين يرون أن الولايات المتحدة هي أكبر تهديد للديمقراطية العالمية، في حين قال 81 بالمئة من الأمريكيين إن هناك تهديداً محلياً خطيراً لمستقبل الديمقراطية الأمريكية.

ومع ذلك تسعى الولايات المتحدة إلى تصدير “ديمقراطيتها” إلى العالم كونها نموذجاً يجب أن يُحتذى، ولعلّ نموذج ما فعلته في العراق وأفغانستان بعد غزوهما بذريعة نشر الديمقراطية وتخليصهما من الديكتاتورية والإرهاب يقدّم لنا درساً عن الديمقراطية التي تريدها.

والرئيس الأمريكي بايدن الذي بدأ عهده بتدشين حرب جديدة، تحت شعار حماية الديمقراطية، وبمقتضاها تمّ تقسيم العالم إلى معسكرين: معسكر الخير وتمثله الدول الديمقراطية ومعسكر الشر وتمثله الدول غير الديمقراطية، الأولى تمّ دعوتها إلى ما يُسمّى “قمة الديمقراطية” والثانية تمّ تجاهلها.

إن ما يُسمّى “قمة الديمقراطية” التي دعا إليها الرئيس بايدن ليس المقصود منها حماية الديمقراطية لمصلحة شعوب العالم بما فيها الداخل الأمريكي، بل إنها مسخّرة إعلامياً لصرف النظر عن حقيقة ما يجرى داخلها، وأن الاجتماعات ستكون مخصّصة لمناقشة تهديد الصين لمكانة الغرب وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك المخاوف تجاه العدو التقليدي: روسيا، وتحفيز دول أخرى على دعم الديمقراطية بغرض تطويع قرارها لمصلحة أمريكا التي تسعى إلى السيطرة على العالم تحت شعار حماية الديمقراطية.