“في الحفرة” لفرقة أوركيدا
المتابع لمهرجان حمص المسرحي لا يستطيع إلا أن يثني على كمّ المجهود المبذول للوصول إلى هذا المستوى من العروض التي رأت النور ضمن الإمكانيات المادية والتقنية المتواضعة التي يضطر المولعون بالمسرح للعمل والتكيّف معها، رغم تفاوت سوية تلك العروض المشاركة، ومن بينها عرض “في الحفرة” لفرقة أوركيدا من حماة إعداد وإخراج أيهم عيشة، وتأليف عبيدة بيطار.
في هذا العرض، الذي قُدِّم في اليوم ما قبل الأخير، هناك اجتهاد واضح لمحاكاة المسرح التعبيري في تجريب الغاية منه كسر الحالة النمطية لمسرح غير احترافي تشتغل في إطاره فرق المحافظات في ظل غياب معاهد التمثيل الأكاديمي، عندما وظّف الرقص التعبيري لكشف جانب اللاوعي عند الشخصية، أو قراءة العقل الباطن للشخصية وصراعاتها الداخلية، وهو في ذلك قد لا يأتي بجديد، لكنه يسعى من خلال هذا التوظيف إلى كسر رتابة المشهد التقليدي، خاصة وأن التوظيف الدرامي لم يأتِ متماهياً تماماً مع الانفعالات الحسيّة للشخصية التي يفترض أن تكون شخصية مأزومة نفسياً، وتمرّ في داخلها صراعات يصعب للحوار العادي التعبير عنها، لكن اللعبة المسرحية في عرض “الحفرة” تفتقر إلى العمق النفسي، والمنطق العقلاني، فهي لا تشبه سوى حكايات الأطفال الوعظية عن كشف الحقيقة والثواب والعقاب وأخذ العبر، مع هذا جاءت مشوقة ومقبولة من قبل المتفرج الذي تفاعل معها.
مجموعة أشخاص يسقطون في حفرة يسميها العرض مدينة الحقيقة والقبول، والحفرة المثالية والأشخاص يعرفون بعضهم بعضاً في الحياة وهم ممرضة ودكتور ومحامية وضابط، ويستقبلهم في الحفرة شخص أعرج يدير الصراع داخلها لكشف المستور والوصول إلى خفايا كل شخصية من الشخصيات المترابطة، هذا الأعرج يطفئ شمعة قبل سقوط الشخصية بالحفرة ليوحي للمتلقي بأنه السيد مدير الأحداث، ممرضة فقيرة الحال تعمل في عيادة الدكتور وتهبه نفسها من أجل المال، ودكتور يسعى للانتقام من زوجته المحامية لأنها تؤثر عملها ونجاحها وشهرتها على الاهتمام به، و”بودي غارد” يسميه العرض ضابطاً يعمل لدى أحد حيتان المال والفساد تساومه المحامية للحصول على أوراق مهمّة تمكنها من كسب الدعوى ضد أحد هؤلاء الحيتان، وهذا الضابط يسعى للانتقام من ممرضة تعمل لدى رجل غنيّ أحبها ورفضته، فيحاول وضع حبة دواء في كأس هذا الغني تسبّب له الشلل فيقوم بمعاقبة الممرضة وطردها، وهكذا تدور الأحداث ضمن نسق متصاعد لنكتشف بالنهاية أن الأعرج هو بلال بيك الذي سعت كل تلك الشخصيات للانتقام من خصومها وتحقيق مآربها من خلاله كونه مريضاً، وهو من قام بحفر تلك الحفرة ليصطادهم بها ويعري نوازع كل واحد منهم أمام الآخرين، أي أن بلال بيك الشخص الغني المتنفذ استطاع كشف نوايا كل شخصية من تلك الشخصيات قبل أن تصل إليه وتحقق مآربها.
يقدّم العرض هنا هذه الشخصية بوجهين متناقضين، وجه انتقامي شرير حذر يدلّ عليه حرصه على دراسة نوايا الشخصيات التي يجب أن يتعامل معها، ووجه خيّر يشير عليه قيامه برمي خاتمه غالي الثمن بوجه الممرضة نسمة التي كانت تنوي سرقته، ويرمي الأوراق المطلوبة للمحامية جوليا بوجهها، وهكذا يقول لكل شخصية من الشخصيات إن ما تسعون إليه لا يستحق كل هذا الشر الذي رماكم في حفرة لا تستطيعون الخروج منها إلا بقرار مني، على مبدأ “اللعب مع الكبار” ممنوع في هذا البلد. لكن العرض ينهي اللعبة بأن تدمّر الحفرة وتدفن في داخلها كل الشخصيات، لأن الذي حفرها جعلها ترتكز على حجر من يزحزحها سيدفن الجميع بداخلها، وهذه النهاية تتناقض مع سمات شخصية بلال بيك، وحرصه الشديد وحذره الفائق تجاه كل من حوله، فهل يغامر ويترك مصيره مرتبطاً بمصير شخصيات سعت للنيل منه واستخدامه كدريئة للتصويب على خصومها وتحقيق غاياتها.
العرض الذي ينتمي إلى المسرح الفقير لم يوظف من العناصر المسرحية غير الإضاءة وقليل من الموسيقى والمؤثرات الصوتية وتُرك الفضاء المسرحي للممثل يثبت ذاته ويخرج ما لديه، ويتيح المكان للراقصين الحركة بحرية ومرافقة هواجس كل شخصية، وهذا الفراغ ربما يشكل للوهلة الأولى حالة من الرفض الضمني لدى المتلقي، لكنه سرعان ما يتجاوز هذه الحالة، وينسجم مع الأداء المتقن للشخصيات ومتابعته للحكاية حتى النهاية، فقد خلق العرض لدى المتلقي حالة تشويق وحافزاً للوصول إلى حقيقة هذه الحفرة جعلت المتلقي مترقباً بانتباه لكل المفارقات والتفاصيل دون تململ يشي بحالة الملل التي قد تكتنفه، لينتهي العرض بتصفيق قد يستحقه.
آصف إبراهيم