احتلال باهظ الثمن
بسام هاشم
ما هو مصير الاحتلال الأمريكي للأراضي السورية؟ وهل تستطيع واشنطن البقاء في سورية إلى أجل غير مسمى؟ وهل يستطيع هذا الاحتلال القيام بـ “مهام” تضيق وتتوسع بين فترة وأخرى؟ وهل يخضع الاحتلال الامريكي في سورية لحسابات المصالح الشخصية لبعض كبار ضباط البنتاغون ومقاولي وزارة الخارجية أو للاعتبارات العملياتية للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط؟ ولماذا يعلو ويصمت حديث الانسحاب وكأن القصة خارج التخطيط الاستراتيجي، وحتى التكتيكي، الأمريكي، تماماً، في أحيان كثيرة؟ ولماذا تلك الإشارات المتناقضة بين رفع بعض العقوبات، أو التخفيف منها، وحتى غض النظر أحياناً، وبين التأسيس لبقاء طويل الأمد، وقد يكون “إلى ما لا نهاية” على شاكلة الحروب الأمريكية؟
لا شيء يوحي حتى اليوم إلا بأن الإدارة الأمريكية الجديدة عازمة على العودة إلى سياسات المحافظين الجدد، وتعزيز حضورهم في صفوفها، وفي رؤيتها للسياسة الخارجية ولمستقبل الوضع في الشرق الأوسط، وتجاه سورية خاصة، ولا شيء يوحي إلا بأن الموقف يزداد قتامة، وخطورة، مع تلاقي المصالح الشخصية، المتعاظمة، لكبار قادة البنتاغون مع واقع احتلال منطقة تنطوي على أهم ثروات سورية الزراعية والنفطية، بحيث يتم التعامل مع منطقة الجزيرة كشبه مستوطنة موعودة، بل وتوكيل أمور العبث بها وإخضاع مصيرها إلى نمط من الشراكة بين مترسملين جدد استعاروا لباس “المارينز”، و”شبكوا” عليها “لابل” “الإدارة الذاتية”، وهم في الطريق لتسلق عربات وسلالم الإمبراطورية في لحظة أفولها وتفاقم تنازعاتها وتصارعاتها الداخلية، وبين جنرالات حرب مشارفين على التقاعد، ومرتبطين بمصالح المجمع العسكري الصناعي، ويتطلعون
لنهاية خدمة مريحة تلقي بهم في مكاتب إحدى كبريات شركات التصنيع العسكري. وفي سبيل الإبقاء على هذه الفرص قائمة، لا بد من الاستمرار باجترار الذرائع، واختلاق الأكاذيب، وسوق المبررات، حتى ولو وصل الأمر العودة لإحياء الأعداء “المعلن عنهم” لـ “الأمة” الأمريكية ذاتها، والتحالف معهم سراً، والتهويل المقصود والمتعمد بما يخص نطاق وحجم قدراتهم العملياتية، كأن تروج وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية – مثلاً – وفي تقرير رسمي، لتنظيم “داعش” الذي “يتماسك في الصحراء، ويستعد لزيادة نشاطه”، في إطار “المرحلة التالية من تمرده” – حسب عباراتها – ومن ثم التأكيد مجدداً على الحاجة للعمل مع عملاء ومرتزقة ما يسمى “قوات سورية الديمقراطية”، و”من خلالها وعبرها” لـ “هزيمة” تنظيم داعش، الذي “ضعف لكنه لا يزال يشكل أولوية لمصالح الأمن القومي الأمريكي في المنطقة”، والذي يسقط في كل مكان.. لكن ليس في سورية والعراق.. فهذا ما يريدونه!!
ما يبدو، حتى الآن، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية عازفة عن استيعاب دروس انسحابيها الأخيرين من أفغانستان والعراق، مع احتساب الفارق الكبير بينهما.. هي تخمن أن الوقت لا يزال متاحاً أمامها لتجريب وإعادة تجريب سيناريوهات فاشلة، فيما هناك من بدأ سحب البساط من تحت قواتها، رويداً.. رويداً. لقد استثمر قطاع الطرق من أصحاب النياشين والرتب الرفيعة والنجوم المذهبة، لصوص القمح والنفط، المتربحون من مآسي السوريين وأوجاعهم، ومن الحرب عليهم، سدنة إشاعة الديموقراطية الأمريكية في العالم، طويلاً، في المصاعب الاقتصادية لأبناء سورية كلها، ودون استثناء، شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، وفي تفشي وباء كورونا خاصة في المناطق الحدودية، وفي حرائق المحاصيل، وفي الجفاف المدمر الذي ضرب المنطقة ويضربها، وفي العقوبات الأحادية الجانب الفردية والجماعية، وفي المساعدات الإنسانية، على أمل تشكيل بيئة مواتية لاستمرار الاحتلال والنهب، واستغلت انشغال الدولة السورية بمكافحة جيوش الإرهاب التكفيري – التي يريدون تحويلها إلى قوات نظامية لـ “حكومة الثورة” السلمية، المدنية، المسالمة، غير المسلحة – لكي تكرس واقعاً من احتلال رخيص – مربح بالأحرى!! – يلبي ويستجيب لمطالب ترامب “الغابر!!”، ومعادلاته الشهيرة في حسابات التكلفة.
ولكن كل الحسابات والمعادلات تتغير اليوم، وبسرعة مذهلة، فالدوريات الأمريكية تتعرض للكمائن، والجنود عرضة للخطر، والطائرات المسيرة وصلت قاعدة التنف، وليس بوسع أحد أن يتكهن بمصير قوافل النفط والقمح والمعدات المسروقة من الأراضي السورية، ولكن الأكيد أنها لن تصل إلى أربيل، وأن الكوريدور المفتوح إلى شمال العراق لن يبقى مفتوحاً إلا بإرادة الشرعية الوطنية السورية.
الجزيرة السورية تشتعل، والاحتلال في طريقه إلى أن يصبح مكلفاً، بل وباهظ الثمن.. وعندها فقط يصبح الانسحاب حتمياً!!