“الراغبون”: احتراف الحياة بالكلمة
سلوى عباس
تنتمي رواية “الراغبون” للكاتبة نهاد أحمد الصادرة عن دار دلمون الجديدة إلى أدب الحرب، حيث توثق لأحداث الحرب في مدينة حمص، فإذا بدأنا في قراءتنا للرواية من الغلاف، لابد أن تستوقفنا لوحة الفنان مهند المهنا التي تمثل صورة أقحوانة نبتت من بين الدمار، وقد ساعد في إظهار تفاصيل اللوحة ومكنوناتها الفضاء المتماوج الألوان بين الرمادي والأسود، ما يوحي بالتكامل الفني ما بين الشكل والمضمون، مروراً بالإهداء الذي سطّرته الكاتبة على صفحتها الأولى: “إلى أحرار العالم”، إذ ترصد في روايتها العديد من الحالات الإنسانية في مجتمعنا. فتحت عنوان: “ماقبل البداية” تقول الكاتبة: “الراغبون يستنهضون العالم.. يعيدون صياغته.. إنهم قادرون على قلب الموازين، مهما عصفت بهم المحن”.
تظهر بوضوح مهارة الكاتبة في سرد تلك الحكايات، وتحكّمها في أسلوب طرح القضايا التي تناولتها فيها، حيث تناوب الأسلوب عندها ما بين السرد والوصف، يضاف إليهما الأسلوب الحواري في بعض الحالات، كما برعت في تحريك شخوصها بحرفية ومرونة، مؤكدة أن الكتابة تساعد على الانعتاق من أسر الحرب في مخاطبتها لسنة 2000 حيث تقول: “يا فاتحة القرن الواحد والعشرين، أتراك تعلمين بهذه الكوارث ولم تخبرينا”؟. وتتابع: “كنّا عشاقاً مخدوعين في تلك المدينة فزلزلتنا الخديعة، ورمت بنا خارج منزلنا وأرضنا”.. “لا أظن أن أحداً رصد سرعتي وأنا أمارس القفز تحت وابل الرصاص دون أن تحين مني التفاتة إلى الموت المتدلي من أسطح الأبنية العالية، أو من عبوة ناسفة في حافلة.. إلى الدم المسفوح فوق جدران الدور العتيقة وفي الأزقة ونظري يلّف المكان”.
تركن الكاتبة إلى حلمها الذي لم تملّ من انتظار بيادر حنطته، ولا من قوة صبره حيث تنتصر به على وجع الحياة تارة ووجع من أحبتهم تارة أخرى، تفتح نافذة قلبها المفضية إلى الضوء بانتظار أن يعود النهار يشعّ في روحها، إنها رغبة الحياة وسط الموت تنتابها فتشرق في وجدانها وروداً وأمنيات بالسلام والمحبة بأيام تتجدّد فيها آمالها كما يتجدّد الفجر وتتفتح براعم الورد، فالحياة مثل الشمس والغيم، الشمس عندما تغطيها الغيوم تسدل على أرواحنا وحشة العتمة ولو كنا موقنين أنها توعد بالمطر.. والمطر حتى يولد من رحم الغيم لا ينفع معه السكون، لذلك علينا أن نخرج البركان الساكن فينا يحرقنا ويتلذّذ بموتنا، أن نفجّر ثورته لنولد كما المطر ونشرق كما الشمس.
في مكان آخر من الرواية تقدّم الكاتبة نصيحة في الكتابة لبطلتها “هند” التي قرّرت مواجهة واقع الحرب والدمار باحتراف الحياة بالكلمة، على لسان بطلها “يعقوب” حبيبها الذي هاجر هرباً من واقع الحرب فكتب لها: “ابدئي القصة من المنتصف ياهند، من ذروتك الخصيبة، وامنحيني ثمرة شوقي إلى موسمك الروائي الجديد، ابرحي الطفولة وتدفقي حباً لا ينضب ماؤه.. دعيني أتوه في محراب الشغف الأزلي.
المنتصف أنت ياهند.. مركز الكون وغابه المطير.. الطفولة مرحلة نقية إلى حدّ الغباء، قاصرة إلى شفير العرج، وها قد كبرت أدبياً.. نضجت روائياً.. اكتمل البدر في سمائك، وتفتحت بتلات شقائق النعمان في أرض ولود.. إني أتخيل في روايتك الجديدة فضاء من السرد اللغوي العاري عري الحقيقة، العفوي حتى آخر حدود الصدق”.
وتختم الكاتبة روايتها بعنوان “البداية” وجاء فيها: “في مدرسة أم الكروم للتعليم الأساسي الحلقة الثانية وقفت أمام طلاب الصف السادس والعام الدراسي يفتح حقائبه. إنها أول مرة أقف فيها هذا الموقف الصعب، لكن ما خفّف من حرجي هو نظرة الطلاب المستبشرة، بدأت بالتعرف إلى أسمائهم، شحذت صوتي وقلت:
أهلاً وسهلاً بكم جميعاً، سوف أسترجع معلوماتكم في اللغة العربية، سأكتبها على السبورة الضوئية ثم أطرح عليكم بعض الأسئلة فما رأيكم؟ هل أنتم مستعدون؟ نعم يا آنسة.
أمسكت القلم الأخضر وكتبت العنوان: “سوف أحيا.. لم لا أحيا وظل الورد يحيا في الشفاه”.