معطيات وإشارات على حتمية الانسحاب الأمريكي من سورية
البعث الأسبوعية- د.معن منيف سليمان
يعدّ انسحاب القوات الأمريكية المُحتلّة لمناطق واسعة في الجزيرة سورية حتمية وأمر واقع، ذلك أن واشنطن اتجهت بعد إخفاقها الذريع في استخدام القوّة الصلبة في منطقة الشرق الأوسط الذي ظهر جلياً في الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، إلى تغيير سياستها الخارجية والذهاب إلى مواجهة الدول الكبرى في منطقة آسيا الوسطى التي تشكّل الصين القوة الاقتصادية المنافسة لأمريكا المستهدف الأول في هذا التحوّل الاستراتيجي. وبناءً على ذلك شكّل انسحابها من أفغانستان خطوة أولى للانسحاب من منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك سورية. ويرى بعض المسؤولين أن أمريكا قد تنسحب من سورية في أية لحظة، بناءً على معطيات وتلميحات من الإدارة الأمريكية نفسها.
فمن خلال النظر إلى سياسة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجاه أفغانستان، التي تستند إلى شعار “أنجزت المهمة”، فمن المرجح أن العالم يستعد لانسحاب أمريكي من سورية على المنوال نفسه، فمن الصعب العثور على أي شخص في الإدارة الأمريكية يُجادل علناً بأن للولايات المتحدة اليوم مصلحة حيوية في سورية.
ومن البداية لم يكن الرئيس الأمريكي بايدن يوماً مهتمّاً بسورية، وبينما وافق على الحملة المناهضة لتنظيم “داعش” الإرهابي، فقد عارض مشاركة أوسع في الصراع عندما كان نائباً للرئيس في عهد باراك أوباما.
وهناك معطيات وإشارات واضحة بالفعل إلى أنه قد يتخذ موقفاً أكثر ليونة من الدولة السورية، حيث قام مؤخّراً بإعفاء صفقة الغاز بين مصر والأردن وسورية ولبنان من عقوبات قيصر الأمريكية. وبالتالي قد لا يشكّل الإبقاء على القوات الأمريكية في شرقي سورية، بهدف حرمان الدولة السورية من حقول النفط والموارد الزراعية في الجزيرة سورية، الدافع الأقوى كما كان في السابق.
وإن بعض الدول العربية بدأت بالفعل في إخراج سورية من عزلتها الدبلوماسية، وذلك إبان تغيُّر المقاربة الأمريكية إزاء الوضع في سورية، عقب وصول إدارة بايدن إلى الحكم في البيت الأبيض.
ففي الأشهر الأخيرة، عززت دول خليجية، ولا سيما الإمارات والبحرين والسعودية، انخراطها مع الدولة السورية بدرجات متفاوتة، كما مارست بعض الدول العربية الضغط على أعلى المستويات في واشنطن في سبيل تخفيف العقوبات المفروضة على سورية.
وهذا يشير على ليونة بالموقف الأمريكي تجاه دمشق، وإشارة إلى بعض الدول العربية للقيام بأدوار لتهيئة الأوضاع لعودة سورية إلى مكانها الطبيعي الإقليمي والدولي، وهذا ما ظهر في تصريحات الملك الأردني عبد الله الثاني عندما أعلن من البيت الأبيض أن الرئيس بشار الأسد قد انتصر في الانتخابات الرئاسية. كما أن الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع السوري إلى الأردن ولقائه رئيس هيئة الأركان وما اتفق عليه الطرفان وربما كانت قاعدة التنف المحتلة أمريكياً بين أهم شروطها، ما يشير إلى إتباع سياسة جديدة للتعامل مع الانتصارات السورية على كافة الجبهات، واتخاذ ترتيبات مناسبة بعد الانسحاب الأمريكي المرتقب.
إن المشروع الأمريكي أخفق في سورية، وبات اتخاذ “داعش” شمّاعة للتدخل في الشؤون السورية ذريعة غير مجدية، ولا شك أن الأيام القادمة ستحمل تغيرات عميقة، لا سيما في ظل التعاون الأخير بين روسيا وأمريكا الخاص بتقديم مشروع مشترك لإدخال المساعدات إلى سورية عبر معبر باب الهوى. وطلب واشنطن من عملائها في سورية بالتوجه نحو روسيا التي تشغل دور الوسيط بين هؤلاء والقيادة السورية في إطار التحضير لمرحلة جديدة بعد الانسحاب الأمريكي الوشيك.
وهذا يعنى إن الاحتلال الأمريكي لمناطق في شرق سورية ليس استراتيجياً، ولا تفترضه ضرورات عسكرية، بل يخضع لنوعية الصراع مع الروس والإيرانيين وحماية أمن “إسرائيل”، وسينتهي على المدى القريب بعد التوافق مع الروس على الحل السياسي في سورية. ويرى بعضهم أن “الأمر يتعلّق بالحفاظ على التوازن”. وعلى هذا الأساس يرى محلّلون أن الانسحاب الأمريكي ربما سيخضع لمبدأ المقايضة.
وبالنظر إلى البعد الجيوسياسي، يزداد الأمر تعقيداً وتشعُّباً في أعين إدارة بايدن، إذ يرى خبراء أن أي تغيير في الموقف العسكري الأمريكي في العراق، من المرجّح أن يعقّد الوضع في سورية، ولا سيما أن الطريق الرئيس للولايات المتحدة للوصول إلى قواتها في شرقي سورية يمر عبر الحدود العراقية.
الأمر الذي أقرّه ميك مولروي، المسؤول السابق في البنتاغون لشؤون سياسة الشرق الأوسط، حيث يرى أنه إذا سُحبت “أصول الدعم” الأمريكية التي تأتي من العراق، بما في ذلك إمدادات المعدات والأفراد، “فقد يؤثِّر ذلك على المهمّة بسورية”. فسيصبح الحفاظ عليها في سورية ببساطة مستحيلاً بسبب الصعوبات اللوجستية.
وفضلاً عن ذلك فإن المقاومة الشعبية تظهر من حين لآخر وتستهدف القواعد الأمريكية في حقل العمر ومخيم الركبان شمالي شرقي الحسكة، وغيرها من المناطق، وتشهد هذه القواعد إرباكاً شديداً نتيجة خشية الجنود الأمريكيين من تجدّد الهجمات الصاروخية عليهم في أيّة لحظة، ذلك أن الهجمات ولّدت ضغطاً نفسياً كبيراً على الجنود الذين يتعرّضون لأوّل مرّة لمثل هذه الهجمات منذ بدء الاحتلال الأمريكي لشمالي شرق سورية في عام 2015.
إن ما يحصل يمهّد لتحوّلات سياسية وميدانية سيشهدها الملفّ السوري، تنفيذاً لتفاهمات أوّلية روسية – أمريكية، وأن نجاح التنسيق بين الطرفين في ملفّ المعابر يمهّد الطريق لإنجاز تفاهمات جديدة على الأرض، تراعي الواقع الميداني الجديد الذي فرضته الهجمات الأخيرة على القواعد الأمريكية، فالمقاومة الشعبية تكفلت بإبعاد أوهام وأحلام أمريكا وعملائها في استمرار الاحتلال.
كما أن الحكومة سورية على استعداد لفتح حوار مع واشنطن يضمن انسحاباً وموقفاً أمريكياً معتدلاً ومقبولاً حيال الأوضاع في المنطقة، وسياسة متوازنة حيال القضايا العربية يشمل وقف الدعم الأعمى لـ”إسرائيل”.
كل ذلك يضع شرق الفرات أمام فرضتين اثنتين: انسحاب أمريكي تدريجي من المنطقة، أو استقدام أعداد إضافية من الجنود مع تعزيزات عسكرية جديدة، لمواجهة التهديد المتنامي هناك. ووفق المؤشّرات، فإن واشنطن لا ترى حتى الآن في الملفّ السوري أولوية، وهي في صدد إعادة تشكيل سياستها في سورية بما يكفل تفادي حالة الاشتباك وتقليل الخسائر إلى الحدّ الأدنى، لأن الولايات المتحدة الأمريكية عندما تواجه أية مقاومة تنهزم وتنسحب، وأنه لا يمكن التعويل على الانفصاليين، ولا سيما أن الوضع الإقليمي هو ضدّ هذه المجموعات الانفصالية سواء في تركيا أو سورية أو العراق، ولا يمكن لهذا المشروع أن يكتمل، وهو ما يجعل فرضية الانسحاب الأكثر ترجيحاً.