150 مليار قطعة تنتج سنوياً.. ملابسنا استنزفت قدرات الطبيعة وأهدرت ثروات الأرض
يستحوذ البساط الأحمر في المهرجانات الفنية والسينمائية على أنظار الجماهير، ويكون محطّ اهتمامها، وتسعى كل نجمة إلى البحث عن إطلالة مغايرة عن السنة السابقة، سواء باقتناء فستان من إحدى الماركات الراقية أو التنسيق مع المصممين العالميين، لعلها تنجح في أن تكون محلّ إشادة الجمهور بطلّتها على البساط الأحمر.
تبلغ تكلفة فساتين المهرجانات سنوياً عشرات الملايين من الدولارات، وبين مهرجان كان في فرنسا ومهرجان البندقية السينمائي في إيطاليا ومهرجان الجونة في مصر، تتنافس النجمات من أجل أجمل إطلالة، إذ بلغ سعر فستان نيكول كيدمان 2 مليون دولار سنة 1997، من تصميم ماركة ديور العالمية، وبلغ فستان هاني البحيري الذي لبسته مي عمر في عرض أزياء خاص بالمصمم في أحد فنادق القاهرة، سنة 2019، 15 مليون دولار.
مئات الفساتين تُلبس على البساط الأحمر سنوياً ثم تختفي ولا تظهر أبداً من جديد، فما هو مصير الفساتين التي أصبحت محور الاهتمام قبل الأعمال الفنيّة؟ تُرى هل تُرمى في خزانات النجمات وتتحوّل إلى مجرّد ذكرى عابرة؟ أم أنّها فساتين على سبيل السلفة من كبار المصممين لتعود إلى عهدتهم من جديد؟
صرّحت منسقة الأزياء العالمية بهوليوود “أريانا ويسنر” أنّ فساتين النجمات العالميات في أغلب المهرجانات العالمية تعود ملكيتها من جديد إلى المصممين الذين روّجوا لعلاماتهم عن طريق النجمات، ويدفعون أحياناً للنجمات مبالغ ضخمة لارتداء العلامة التجارية الخاصة بهم، وتصل نسبة الفساتين التي تمّت إعارتها إلى 99%، وفي حالات نادرة يتمّ إهداء الفستان إلى النجمة، كما حدث مع النجمة جينيفير لوبيز، التي حصلت على فستان من توقيع فيرزاتشي، بعد الظهور به في حفل جائزة غرامي سنة 2000.
وتحتفظ دور الأزياء العالمية مثل ديور وشانيل بالفساتين التي أعارتها إلى النجمات في أرشيفها الخاص.
وقد تبرعت بعض النجمات في هوليوود مثل ميريل ستريب، ونيكول كيدمان وسلمى حايك بفساتينهنّ التي ظهرن بها في حفل غولدن غولب سنة 2018، لبعض الجمعيات الحقوقية، من أجل إنشاء صندوق الدفاع القانوني لضحايا التحرش والاعتداء الجنسي.
ملابس بقية البشر
لربّما تستحوذ فساتين الفنانات على النصيب الأوفر من الاهتمام حول مصيرها، ولكن ما هو مصير أطنان الملابس المستعملة لباقي البشر، والتي ترمى أو تهمل سنوياً، وهي تفسح المجال لملابس جديدة حتماً ستأخذ مكانها وستُرمى هي الأخرى بعد فترة.
وتحيلنا دورة حياة الملابس إلى أسئلة كثيرة. ولكن، وقبل الولوج إلى فكرة المقال عن استهلاك ملايين البشر للملابس وما هو مصيرها بعد انتهاء دورة حياتها، هناك بعض المعلومات الضرورية التي ينبغي التذكير بها.
أولاً: نشرت بعض المصادر الصحفية مؤخراً عن الاستهلاك المفرط للماء في تصنيع الجينز، إذ يصل معدّل إنتاج كيلوغرام واحد من الجينز إلى آلاف الليترات (عشرة آلاف لتر لزراعة القطن والصباغة)، علماً أنّ الإنتاج السنوي يصل إلى خمسة مليارات سروال جينز، وتتطلب صناعتها الكثير من الماء والمواد الكيميائية.
ثانياً: ابتكرت بعض الشركات في أوروبا منسوجات وأغطية من ألياف الشجر، وهي ماّدة تسمّى الفسكوز، وذلك بعد ارتفاع أسعار القطن اتجهت عشرات الشركات إلى الاستثمار في الفسكوز ومشتقاته، وهو ما يهدد الثروة الغابية في العالم، إذ يفقد العالم قرابة هكتار ونصف كلّ ثانية، وهو ما يصل إلى 15 مليار شجرة سنوياً.
ثالثاً: هل تعلم أنّك أحياناً تدفع ثمن سموم تلبسها في ملابس داخلية أو قمصان وغيرها، ومن ماركات عالمية، إذ تمّ الكشف عن مواد سامّة استخدمتها شركة زارا الإسبانية بعد استخدامها هرمون ألكفن أوليتوكسيلات في غسيل الأزياء بباكستان، ويشكل هذا الهرمون خطراً كبيراً على مياه الأنهار والبحار التي استخدمتها الشركة أثناء تصنيعها للملابس.
رابعاً: هناك أطفال تحت سنّ الخامسة عشرة في الدول النامية يعملون في مصانع الملابس، وفي ظروف غير إنسانية، كما تتعرّض النساء إلى التحرّش وسوء المعاملة في تقرير نشرته مؤسسة هيومان رايتس ووتش، تحت عنوان “اعمل بسرعة وإلا ستُطرد”.
ولربّما سنستغرب حقاً أن يصل العالم إلى إنتاج 150 مليار قطعة ملابس تنتج سنوياً، وبدخل سنوي يصل إلى 1.2 تريليون دولار، لا شكّ أنّ هذه الصناعة قد أصبحت عمود اقتصاد بعض الدول ومصدر ثروة لكبار المصنعين، إذ تتنافس الشركات الكبرى على إغراق السوق يومياً بقطع جديدة، تحت مسمّى الأزياء السريعة، التي ظهرت أوائل التسعينات من القرن الماضي، بتكلفة أرخص وجودة أقلّ، وهو ما يجعل الزبون في سباق محموم مع الشراء، شراء قطع جديدة تتماشى مع ذوق اليوم الذي يختلف قليلاً عن ذوق أمس.
150 مليار قطعة ملابس، هل تتخيّل حقاً هذا الرقم لسبعة مليارات نسمة على الكرة الأرضية، من المؤكد أنّها لن تستعمل جميعها، سيرمى بعضها وسيتحوّل إلى نفايات ستعزز أزمة الاحتباس الحراري، أزمة الإنسان المعاصر.
من المؤكد أنّ جميع الملابس لا تباع بأسعارها الحقيقية وفي المحلات الراقية، فتصل إلى بعض الدول في أكداس الملابس المستعملة، ربّما وجدت ذات مرّة قطعة ملابس جديدة لم تلبس بعد، ولكنّك اشتريتها بسعر زهيد في أحد أسواق الملابس المستعملة (البالة)، لست محظوظاً، بل لأنّ فائض الملابس الزائد عن حاجة البشر في العالم يتيح لك أن تلبس قطعة لم تُستعمل بعد، ولكنّها وجدت الطريق إليك وأنت تدفع ثمنها، هذه الشركات لا يمكن أن تخسر على الإطلاق ومهما كان الثمن ستكون دائماً الرابح.
تشير بعض المصادر إلى أنّ العالم يتخلص من 11 ألف قطعة ملابس أسبوعياً في مكبات النفايات، إذ حرصت ماركة “إتش آند إم” العالمية على التخلص من فائض الملابس التي تنتجها، إذ أحرقت في 2017 ما قيمته 3 مليارات دولار في مصانع مخصصة لهذا، وفي هذا السياق يتخلص المواطن الأمريكي سنوياً من 37 كغ من الملابس، ويصل معدّل النفايات من القماش في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 11 مليون طن سنوياً.
وتنتعش تجارة الملابس المستعملة والمعروفة بالبالة في عدّة دول في العالم ويلجأ البعض في أوروبا وأمريكا إلى بيع ملابسهم المستعملة إلى شركات متخصصة في هذا المجال، وتتصدر أمريكا المرتبة الأولى في الدول المصدّرة، وينتهي المطاف بالملابس المستعملة في دول إفريقيا، التي تجد رواجاً، لرخص أسعارها وفقر سكان القارة الإفريقية الذي منعهم من شراء ملابس جديدة، فدولة مثل كينيا يصل استعمال الملابس المستعملة فيها سنوياً إلى 100 ألف طن.
تتخصص بعض الجمعيات الخيرية في جمع الملابس المستعملة وتوزيعها على مستحقيها، خاصة مع أزمة كورونا، التي أفقدت الملايين وظائفهم وعمقت الأزمة الاجتماعية التي تمرّ بها الطبقات الضعيفة، والتي وجدت في الجمعيات الخيرية ما يستر أجسادها حتى وإن كانت ملابس مستعملة.
كما انتهى المطاف ببعض القطع النادرة التي ارتدتها بعض الشخصيات المشهورة إلى متاحف خاصة، تدوّن سيرتهن، ويشتهر متحف الملكة فيكتوريا وزوجها ألبرت في المملكة المتحدّة بمجموعته الفريدة من الملابس التاريخية والمعاصرة، ويتجاوز عمره الأربعة قرون، فيما نفتقد متاحف تدوّن تاريخ اللباس في العالم العربي، باستثناء بعض المحاولات التي لم ترق إلى درجة التوثيق.
في خضم فوضى الشراء اليومية، لنتساءل بجدّية عن جدوى استعمال ملابس جودتها ضعيفة، ولنتضامن أيضاً مع ملايين العمال في أفريقيا وآسيا، ولنفكر من جديد في جدوى إيذاء الكرة الأرضية جرّاء الانبعاثات السامّة.
ملابسك التي ضاقت بها الخزانة أو التي تبرعت بها، أو تلك التي تحوّلت إلى خرق مطبخ، أنهكت الطبيعة، وأهدرت ثرواتنا الطبيعية، فمتى تتوقفين عن حمّى الشراء وتلبسين ما يعبّر عنك، بملابس بموّاد طبيعية ستعيش معك طويلاً تحمل بعضاً من رموز هويتك، ملابس صوفية أو قطنية ذات جودة عالية ومن إنتاج محلي يعزز كرامة عامل نسيج في مصنع وطني، فهل هذا كثير علينا! أن نعي فقط ما جدوى أن نركض دون جدوى في متاجر الماركات العالمية.