دفاتر الوراق.. تناص مع الواقع بلغة رشيقة وأسلوب بارع
آصف ابراهيم
مابين الرواية والواقع تناظر خلاق يقوده فكر متقد وخيال جامح يسعى نحو خلق ملامح جديدة لواقع افتراضي يقام على تناقضات القائم، ويسعى من خلاله لتصحيح وعي القارئ وتوجيهه نحو هدف محدد عبر لفت انتباهه إلى الثغرات والكشف عن العلاقات التي تتحكم بهذا الواقع القائم، الغاية الاسمي من وراء ذلك هي التأسيس والانتقال إلى مجتمع فاضل سماته العدالة والمساواة.
وسر نجاح أية رواية هو في قدرتها على تحفيز وعي القارئ وإحداث التأثير فيه وأسره ضمن أسوار تحولاتها السردية وتوزيع مركز الثقل التشويقي، من النهاية إلى الفصول والتشكيلات المتعاقبة ضمن تواتر انفعالي متصاعد ومستقر، مستعيناً بالأدوات الضرورية لذلك وفي مقدمتها الزخيرة اللغوية والثقافة العالية والفهم العميق لسيكولوجية الذات البشرية، ورغم قلة من يمتلك تلك الأدوات من روائي الجيل الراهن التي تمكنهم من الاستحواذ على ملكة الإبهار والأسر، لكننا لابد وأن نقع على بعض الاستثناءات.
وهذه المقدمة أرى أنها افتتاحية ضرورية قبل الولوج إلى فضاءات السرد في رواية “دفاتر الوراق” للأردني جلال برجس، الفائزة بجائزة البوكر للرواية العربية لهذا العام، تلك الرواية التي يجيد برجس فيها صنع الدهشة والمفاجأة أثناء الانتقال من فعل إلى آخر ضمن خطوط درامية متكاملة ومتوافقة غير متنافرة، حيث يقود تحولات السرد دون أن يشعر القارئ بانقطاع تواتر التشويق والإمتاع، مستعيناً بذخيرة لغوية موظفة برشاقة سلسة نادرة التكلف، وثقافة أدبية وتاريخية قد يكون بالغ قليلاً في استعراضها لكنها جاءت متوائمة مع شخصيته المحورية، إبراهيم الوراق، الذي يعمل في كشك لبيع الكتب وسط مدينة عمان ورثه عن والده، جاد الله، المثقف اليساري الذي خرج من بيئة بدوية محافظة في محافظة مأدبة ليدرس الفلسفة في الاتحاد السوفييتي السابق على نفقة الحزب الشيوعي الذي انتسب إليه بشكل سري، ليعتقل بعدها ويضطر بعد خروجه من السجن لهجرة قريته التي قابله أهلها بالجفاء بعد إشاعة انتسابه لحزب “كافر” لا يلتزم بالشريعة والعادات الاجتماعية، وينتقل للعيش في العاصمة.
في “دفاتر الوراق” لا وجود لشخصيات فائضة عن الحاجة، بل لكل شخصية حضورها المكمل للنسيج الدرامي في السرد، تمسك بخيوطها شخصية إبراهيم المحورية، رغم تعدد الأصوات لكنها تخضع لمشيئة الشخصية المحورية، هو من يحدد متى يطلق لها العنان لتعبر عن ذاتها ومتى يوقفها ليقود هو دفة الفعل الروائي.
من يقرأ “دفاتر الوراق” لابد أن يؤخذ بلغتها وأسلوب إدارة المحاور فيها والانتقال فيما بينها دون الشعور بتغير سوية الشحن الانفعالي، والتصاعد الدرامي في السرد الذي يقود إلى مفاجآت غير محتملة كأن تشي ليلي بإبراهيم ببساطة ودون تردد عندما تلتقي به وجهاً لوجه يسرق الشقة التي تعمل فيها جليسة لامرأة عجوز، رغم ما قدمه لها ولرفاقها المشردين المتخرجين من ملجأ اللقطاء، وكان أحد دوافعه للسرقة والصعلكة (السير على خطى الشعراء الصعاليك) هو إنقاذهم من التشرد وشراء منزل يؤويهم بدلاً من بقائهم في منزل مهجور مليء بالرطوبة والأوساخ.
والمفاجأة الثانية غير المتوقعة هي أن تكون الفتاة التي أحبها عندما التقاها على جسر في مدينة العقبة أثناء عزمه على الانتحار وحالت بينه وبين ذلك، ثم غابت ناسية دفتر مذكراتها لينهل منه إبراهيم سيرة حياتها، هي نفسها السيدة نون، أو نادرا، زوجة أبيه التي تزوجها دون علمه بعد وفاة أمه وأخيه عاهد، وخروج والده من السجن منكسراً مهزوماً ومصدوماً بالواقع الذي فقد الأمل بإصلاحه فمات منتحراً.
لا يدعك صاحب رواية “أفاعي النار” تفلت من براثن التشويق والمتعة حتى وهو يجنح بعيداً في خياله عن الواقع والمنطق عندما يجعل من شاب متحرر ومثقف عاش جلّ حياته بين الكتب والروايات، لصاً محترفاً يسطو على البنوك وبيوت الأغنياء، وينجح في كل محاولاته ببساطة لا تخلو من السذاجة أغلب الأحيان كأن يتقمص شخصيات روائية استقرت في لاوعيه بكامل هيئتها ويقصد أهدافاً محددة لسرقتها كشخصية سعيد مهران في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ، وسعيد مصطفى في موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وكوازيمودو في أحدب نوتردام، وزيفاكو في رواية الدكتور زيفاكو، وهكذا يسطو على منازل وبنوك تعجز عن سرقتها عصابات محترفة، لكن الروائي يبسط الأمر لدرجة السذاجة، كأن يدخل إلى منزل إياد نبيل الثري الفاسد من باب ألمنيوم خلفي يفتح بكل يسر وسهولة، فهل يجد الكاتب أنه يستطيع إقناع القارئ أن رجلاً ثرياً يدخر في منزله مجوهرات ثمينة وأموالاً ويتركه باب ألمنيوم؟
مع هذا، فإن لغة برجس المشبعة بالوصف والشعرية تشفع له الشطحات الفانتازية الكثيرة التي انساق وراءها، مبتعداً عن الفكرة المحورية التي بدأ بها، وهي الولوج إلى عوالم المهمشين والمأزومين خلال مرحلة زمنية امتدت لثلاثة أجيال من بداية سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، فقد مثل الجيل الأول الشموسي جد إبراهيم ومعاناته مع الفقر والقحط والاستغلال، وأحلامه التي أودعها لدى ولده الذي كان ينتظر منه أن يأتي من الخارج طبيباً يخلص أهل قريته من الأمراض التي لم تفلح الأعشاب من القضاء عليها، لكنه عاد أستاذاً للفلسفة التي لن تنفع في إعادة الأرض التي رهنها الشموسي للمرابي لقاء مبلغ يكفي تكاليف دراسة جاد الله في الخارج.
والجيل الثاني يمثله جاد الله المتشبع بالأفكار الثورية والتحررية التي تخلص المجتمع من التخلف والظلم لكنه ينهار بعد أول اعتقال له فيهجر القرية هرباً من عيون أهلها المعاتبة والمستنكرة لتحولاته الفكرية المخيبة لهم.
والجيل الثالث يتوارث أزمات وانكسارت جيل ما قبله، يمثله ابراهيم وليلى والدكتور يوسف السماك الذي يحمل اسم شخص غير أبيه البيولوجي الذي رفض الاعتراف بأبوته له، ونادرا التي تمردت على واقعها وبيئتها بعد وفاة أسرتها في حادث سير فخلعت الحجاب وتركت الحي لتشق طريقها في مكان آخر وفق رؤيتها وقناعاتها التي يتبناها الكاتب ويشتغل عليها في كل مفاصل البناء السردي.
يتبع برجس أسلوب سرد درامي متداخل، فتارة يتولى مهمة الراوي، وتارة يفسح المجال إلى نادرا استكمال المهمة في سرد الجزء التاريخي من قصة حياة جاد الله من الولادة حتى الرحيل الأخير. وهذا التناوب في السرد كان كفيلاً بتوسيع دائرة المكان والزمان للإحاطة بجوانب اجتماعية وتاريخية متعددة.
لا يخفي برجس تناصه الواضح مع روايات الكتاب اليساريين العرب، أمثال عبد الرحمن منيف والطيب صالح ونجيب محفوظ وغيرهم، في الاشتغال على التحولات الدراماتيكية في الواقع العربي وموقف المثقف الثوري من تناقضاتها المتشعبة والمعقدة، ورغبته الواضحة في التخلص من أسر المعتقدات الاجتماعية الرجعية المستبدة بالواقع والقيم السلوكية ضمن بناء اجتماعي هش، وإنهاء الصراع الوجودي لصالحه.