الانسحاب الأمريكي وحقائق الميدان
سنان حسن
على الرغم من اقتراب الموعد المحدد لانسحاب القوات الأمريكية من العراق في الحادي والثلاثين من نهاية الشهر الجاري، إلا أن واشنطن تراوغ في شأن وجودها العسكري على أرض الرافدين خاصة والمنطقة عموماً، ولاسيما بعد تصريحات القيادة الأمريكية الوسطى بأنها ستبقي 2500 عنصر أمريكي على مستوى الخبراء، ما يعني أن الانسحاب بشكل عام تم تفريغه من مضمونه والالتفاف عليه تحت ذرائع محاربة الإرهاب ومنع تمدّد داعش، ولكن هل هذه الذرائع هي لبّ الحقيقة بالفعل، أم أن الهدف الرئيس الذي جاء من أجله الأمريكي المتمثل في حماية الكيان الصهيوني لم يتحقّق بعد؟ وبالتالي ما زال يراهن على قدرة وكلائه المفترضين على تحقيق هذا الهدف؟.
منذ وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن يتردّد على لسانه دائماً عزمه على إنهاء الحروب في العالم، ولكن الواقع حتى الآن يؤكد عكس ذلك، ويعطي انطباعاً كبيراً عن مدى الانقسام الحاصل في إدارته حول مجمل قضايا السياسة الخارجية ومنها منطقة الشرق الأوسط، فتارة يخرج مسؤولون من البنتاغون ليعلنوا أن الأرقام الفلكية التي تم صرفها خلال الوجود العسكري في أفغانستان والعراق “2 تريليون دولار في أفغانستان”، وأن الوجود العسكري لا طائل منه حالياً في ظل ازدياد الهجمات على القوات الأمريكية الموجودة هناك، طالما أن الهدف الرئيس حالياً هو مواجهة الصين ومنع تقدّمها، وبالتالي لابد من تغيير التفكير الأمريكي في مواجهة الخصم الجديد بالاعتماد على وسائل أكثر تطوّراً وأقل كلفة، في حين هناك رأي آخر في الإدارة الأمريكية من الواضح أنه يسيطر ويفعل ما يريد حالياً، يؤكد ضرورة العسكرة والوجود في كل الجبهات للحفاظ على التفوق الأمريكي حول العالم، وقد خطا هذا الفريق عملياً في هذا المجال العديد من الخطوات، فعمل على إطلاق اتفاقية “أوكوس” الأمنية مع بريطانيا وأستراليا، التي سمحت واشنطن بموجبها لـ “كانبيرا” بامتلاك السلاح نووي من خارج النادي النووي في حين ترفض أي استفادة مدنية لإيران في هذا المجال، كما تمت إعادة تفعيل تجمّع “كواد” الرباعي مع اليابان والهند وأستراليا، وأكثر من ذلك سعت مباشرة وعلانية إلى عسكرة أوروبا الشرقية ودفعها إلى مواجهة مباشرة مع الاتحاد الروسي من بوابة ضمّ أوكرانيا وجورجيا إلى حلف “ناتو”، طبعاً دون أن نغفل ما يفعله هذا الفريق في الشرق الأوسط وإصراره على إبقاء القوات الأمريكية في العراق وسورية تحت ذرائع واهية، رغم أن الهدف على الأرض غير قابل للتحقق بوجود قرار رسمي عراقي بإنهاء الوجود الأمريكي، ورفض شعبي تمثل في إعلان القوى الوطنية العراقية رفضها لهذا الوجود واستعدادها لمقاومته.
ضمن هذا الواقع، لا تستطيع الإدارة الأمريكية مع ضيق الوقت المتاح لها لمجابهة الصعود الصيني إلا أن تستغني عن أكثر المواقع التي كانت تتمسك بوجودها العسكري المباشر فيها، لذلك هي تسعى الآن بكل الإمكانات المتاحة إلى تأمين وكلاء في هذه المناطق للمشاغلة فقط، كما تفعل الآن لإشغال الدب الروسي عبر كل من أوكرانيا وبولندا وغيرهما، وقبل ذلك ما فعلته بانسحابها من أفغانستان لإشعال وسط آسيا برمّته، ولكن ماذا عن الأطراف التي تعمل على مشاغلتها؟
بالمحصلة، الخروج الأمريكي من المنطقة أمر واقع لا محالة، سواء أرضيت به أم لم ترضَ، فالدول التي تريد واشنطن إبقاء التوتر على حدودها تدرك هذه الحقيقة وهي تعرف كيف تدافع عن وجودها وحضورها في العالم، ولن تفلح الاستفزازات في أوكرانيا في قطع تواصل روسيا مع أوروبا، وكذلك شغلها عن الجبهات الأخرى، ولن يقود تفجير وسط آسيا ومحاصرة الصين في المحيط الهادي إلى منعها من النهوض، كما أن تغيير تسميات وجود القوات الأمريكية في العراق لن يوقف المقاومة عن مواجهتها من جديد ودفعها إلى الانسحاب كما حدث في 2011، فالحقيقة الواضحة أن الشعوب في العالم تعرف ما تريد وليست بحاجة إلى شرطي أمريكي.