غريزة اغلاق الأبواب.. سياسة الدول الغربية في ردها على الكوارث العالمية
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
في 24 تشرين الثاني الماضي وقع حادثان مدمران ومنفصلان، ولكنهما مترابطان في نهاية المطاف، في مناطق نائية من العالم. أولاً، لقي ما لا يقل عن 27 شخصاً مصرعهم أثناء محاولتهم عبور المياه الهائجة للقناة الإنكليزية، التي تفصل فرنسا عن المملكة المتحدة. وكان القتلى مهاجرين من إفريقيا والشرق الأوسط حيث غرقت طوافتهم قبل وصولها إلى شواطئ المملكة المتحدة. كان هذا أخطر عبور للمهاجرين عبر القناة تم تسجيله على الإطلاق، لكنه ليس حادثة منعزلة، حيث تصاعدت محاولات عبور القنوات منذ 2018 ، مما أسفر عن سقوط مئات القتلى.
ثانياً، في نفس اليوم ، وعلى بعد أكثر من 8000 ميل إلى الجنوب، أبلغ الخبراء في جنوب إفريقيا منظمة الصحة العالمية عن اكتشاف قاتم، وهو متحول أوميكرون، الذي يعد تكرار جديد للفيروس التاجي يمكنه أن ينتقل بشدة والذي يسبب كوفيد -19.
قبل نهاية شهر تشرين الثاني، أغلقت ما يقرب من 60 دولة حدودها أو فرضت قيوداً صارمة على المسافرين القادمين من جنوب إفريقيا والعديد من الدول المجاورة لها ، وهو رد فعل انتقده الكثيرون واعتبروه عنصرياً وغير مجد، وخطير.
هذان الحادثان، يبدوان للوهلة الأولى، غير مترابطان. ومع ذلك ، فإن كلاهما يسلط الضوء على حقيقة سياسية قاتمة، وهي استعداد الدول الغربية للرد على الكوارث العالمية من خلال إغلاق أبوابها. ذلك أن عمليات إغلاق الحدود من قبل الدول المتقدمة، والأزمات السياسية والإنسانية التي تسببها، ليست ظاهرة جديدة أو غير شائعة، فعلى مدى السنوات العديدة الماضية، وبعد بذل جهود كبيرة لتثبيط الهجرة القانونية والحد منها، واجهت الولايات المتحدة زيادة في عمليات العبور غير النظامية على حدودها الجنوبية، بما في ذلك قوافل المهاجرين وطالبي اللجوء من أمريكا الوسطى. حتى عبر المحيط الأطلسي، كان هناك أزمة إنسانية كبيرة عندما تم حجز المهاجرين في العراء في المنطقة الحدودية بين بيلاروسيا وبولندا حيث رفضت كلتا الدولتين السماح لهم بالدخول إلى أراضيهما.
من خلال التهديد بإرسال آلاف المهاجرين من الشرق الأوسط عبر حدودها مع بولندا ، تأمل بيلاروسيا في الضغط على الاتحاد الأوروبي لرفع عقوباته عن البلاد ، والتي تم تشديدها في وقت سابق من هذا العام.
كل من هذه الأمثلة مصحوب ليس فقط بعدم الاستقرار السياسي، ولكن بالتكاليف البشرية المدمرة أيضاً، إذ تزيد الاشتباكات الدائرة بين ضباط الحدود والمهاجرين على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة من انتهاكات حقوق الإنسان، في حين تكثر المخاوف بشأن التقارير المتعلقة بسوء المعاملة وإساءة معاملة المهاجرين المحاصرين حالياً على الحدود بين روسيا البيضاء وبولندا. في غضون ذلك ، كان للأزمة الإنسانية في القناة الإنكليزية آثاراً جيوسياسية، مما زاد من انعدام الثقة والإحباط بين المملكة المتحدة وفرنسا بشأن المسؤولية المترتبة على كل منهما فيما يتعلق بوقف انطلاق القوارب ، وكذلك رعاية المهاجرين الذين عبروا القناة.
إن تسييس قضية طالبي اللجوء الساعين وراء ظروف معيشية أفضل عبر الحدود هو رد فعل رجعي لعدد لا يحصى من المشاكل السياسية، وغالباً ما يكون له تداعيات عنصرية أيضاً. فبعد أن أطلقت منظمة الصحة العالمية إنذارات بشأن متحول أوميكرون، قامت الولايات المتحدة على الفور بتقييد السفر من جنوب إفريقيا وسبع دول أخرى في جنوب إفريقيا، كما أعلنت اليابان وكندا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وعشرات الدول الأخرى عن حظر وقيود سفر فورية ضد العديد من الدول الأفريقية، حتى أن بعضها كان أكثر صرامة من تلك التي نفذتها الولايات المتحدة.
تجدر الإشارة إلى أن الحظر الأمريكي طال تلك الدول الثمانية في جنوب إفريقيا، على الرغم من أن العديد منها لم يبلغ بعد عن حالات لمتحول أوميكرون. ومع ذلك ، لم يُمنع المسافرون من البلدان الأخرى التي أبلغت عن حالات الإصابة بـ أوميكرون، بما في ذلك بلجيكا وكندا وأستراليا، من الدخول.
وبالتالي فإن استبعاد البلدان الأفريقية أمر مزعج نظراً لوجود أدلة محدودة على أن قيود السفر وإغلاق الحدود هي إجراءات فعالة في وقف انتشار الفيروس، وقد لاحظ مسؤولو الصحة العامة أن هذه القيود تشكل سابقة مقلقة، بينما تقدم القليل من المكاسب. في الواقع، إن إرشادات منظمة الصحة العالمية لعام 2019 بشأن التعامل مع انتشار جائحة الأنفلونزا تعتبر إغلاق الحدود كإجراء لا ينبغي اتخاذه “تحت أي ظرف من الظروف”. منذ ذلك الحين حذرت منظمة الصحة العالمية الدول مراراً وتكراراً من فرض حظر سفر متسارع ضد فيروس كورونا، بما في ذلك الشهر الماضي استجابة لمتحول أوميكرون.
كما لاحظ مسؤولو الصحة العامة على نطاق واسع أن أفضل استجابة لهذه النسخة الجديدة من التهديد القديم هي بالضبط عكس هذه الغريزة الانعزالية. فبدلاً من عزل بعضها البعض، أوصى الخبراء بأن تعالج الدول عدم المساواة في اللقاحات في جميع أنحاء العالم وتشجع تبادل المعلومات بشكل شفاف بين مسؤولي الصحة العامة في مختلف البلدان.
بالتأكيد ، هناك مجموعة متنوعة من القضايا المحلية أخرت في سعي البلدان ذات الدخل المنخفض لتحصين نفسها من الوباء، لا سيما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وخاصة التشكيك في اللقاحات وضعف البنية التحتية. لكن جزءاً كبيراً من اللوم يقع على عاتق الدول المتقدمة، التي فشلت في مساعدة الدول الفقيرة في الحصول على اللقاحات والتي ترفض شركاتها مشاركة المعلومات العلمية التي من شأنها أن تسمح لها بتصنيع اللقاحات محلياً.
يرتبط انتشار طفرات الفيروس التاجي ارتباطاً مباشراً بنقص اللقاحات في جميع أنحاء العالم، و الحل العالمي الحقيقي لهذه المشكلة لا يكمن في فرض الحواجز بين الدول، ولكن في إزالتها من خلال زيادة التعاون الدولي.
ببساطة، لإغلاق الحدود تكلفة اقتصادية، حيث يُعتقد أن إغلاق الحدود مسؤول جزئياً على الأقل عن الكثير من المصاعب الاقتصادية التي واجهها العالم في المراحل الأولى من الوباء. كما أن له تكلفة علمية، فقد حذر الكثيرون من أن حظر السفر الأخير قد يثبط الشفافية فيما يتعلق بتطورات كوفيد-19. وله أيضاً تكلفة بشرية، بما في ذلك بالنسبة للعمال المهاجرين الذين تعتمد سبل عيشهم وأسرهم وشبكات الأمان الاجتماعي على الحدود المفتوحة. وهذه التكاليف موجودة حتى قبل تفشي فيروس كورونا، وهي تتعلق بمجموعة متنوعة من القضايا العالمية. فعلى سبيل المثال، مع استمرار تغير المناخ في تحفيز الهجرة الجماعية من البلدان التي تتحمل وطأة ارتفاع مستويات سطح البحر والطقس القاسي، فإن غريزة إغلاق الحدود لن تؤدي إلا إلى زيادة المعاناة الإنسانية ، كما حدث مع 27 شخصاً لقوا حتفهم في القناة الإنكليزي.