في المؤتمر الدولي الثالث لطلاب الدراسات العليا؟ الباحثون يسألون: ماذا بعد العرض أمام عدسات الكاميرات؟
البعث الأسبوعية- غسان فطوم
لو فتشنا في الدفاتر القديمة للبحث العلمي في سورية نجده بدأ في خمسينيات القرن الماضي وتحديداً عام 1958 مع تأسيس المجلس الأعلى للعلوم، يعني بحسابات السنين بحثنا العلمي بات بعمر الرجل الكهل (60 عاماً) والمفروض أن يكون ناضجاً ومكتملاً بكل مقوماته ومجدياً بتطبيقاته بعد كل هذا العمر، لكن هل الواقع الحالي يعكس ذلك؟، للأسف بعد مضي أكثر من ستين عاماً على “الولادة” ما زلنا نسمع في كل مؤتمر أو ورشة عمل أو ندوة خاصة بالبحث العلمي حديثاً مملاً عن إجراءات جديدة وقرارات كان من المفترض اتخاذها منذ عقود كإحداث قاعدة بيانات تم انجازها مؤخراً، وكأننا بدأنا للتو علماً أن الأرقام تكشف أن هناك مليارات الليرات صرفت على مدار السنوات الماضية تحت شعار “تنمية وتطوير وتفعيل البحث العلمي”، هذه الحال تضعنا أمام العديد من التساؤلات الساخنة حول جدية التعليم العالي والبحث العلمي وجامعاتنا ومراكز الأبحاث الأخرى في التعاطي والتعامل مع البحث العلمي لجهة كيفية استثمار الأموال ونحن لا نرى أثراً على الأرض لدوره الفاعل في حل مشاكلنا الزراعية والصناعية وكل المجالات الأخرى؟!.
بعيدٌ عن التطبيق!
نقول هذا الكلام على خلفية ما سمعناه مؤخرا أثناء انعقاد المؤتمر الدولي الثالث لطلاب الدراسات العليا الذي عقد بجامعة دمشق تحت عنوان “مساهمات اقتصادية وتنموية” والذي ناقش بحسب برنامجه الورقي الأنيق عدة محاور منها الاقتصادي والتنموي والاجتماعي والتربوي، بالإضافة إلى المحور البيئي والصحي والمحور الهندسي والتقني، وكالعادة كان الحضور كبيراً والكل لديه الرغبة والنية بتفعيل دور البحث العلمي واستثماره في عملية التنمية بمختلف مجالاتها، وخاصة في هذه المرحلة بالذات التي تنفض فيها البلد غبار الحرب للبدء في مرحلة إعادة الاعمار التي تحتاج لمشاريع ذات جدوى ومنفعة على المدى القريب والبعيد وفق معايير أساسها البحث العلمي حتى نغتنم الفرصة ولا نقع في المطب مرتين!
بالتأكيد مثل هذه المؤتمرات فرصة هامة لعرض أوراق بحثية هامة مشغول عليها، خاصة وأن هناك مشاركة دولية في عدد من الاختصاصات في المؤتمر المذكور يمكن الاستفادة منها، لكن هذا الزخم في المشاركة لم يمنع عدد من طلبة الدراسات العليا المشاركين بأوراق بحثية من السؤال: ماذا بعد العرض أمام عدسات الكاميرات؟، مؤكدين على ضرورة تفعيل البحث العلمي العملي الذي يحوّل الأرقام والمعطيات إلى واقع يمكن الاستفادة منه في عملية التنمية بكل مجالاتها.
سؤال يشير بوضوح إلى عدم جدوى المؤتمرات وورش العمل، فهي برأي طلبة الدراسات العليا وهم (نواة البحث العلمي)، وأيضاً رأي عدد من الباحثين في كل الجامعات السورية، أن تلك المؤتمرات وطنية كانت أو بمشاركات دولية وإقليمية لا تصنع بحثاً علمياً تطبيقياً لأنها لا تخرج أبعد من إطار العرض والاستعراض بعيداً عن التطبيق إلا ما ندر!.
ومنطقية السؤال السابق عززها قول طلبة آخرين “الحماس لوحده لا يصنع بحثاً علمياً”، وهذا ما يشير إلى خلل إضافي واضح في آلية التعاطي والتعامل الحكومي مع البحث العلمي عبر “التعليم العالي” والجامعات الحكومية والخاصة وحتى المراكز والهيئات البحثية الأخرى، وخاصة التي تصفها “التعليم العالي” بمراكز التميّز البحثية المتخصصة في المجالات ذات الأهمية الإستراتيجية التي تسهم في تأمين حاجات المجتمع وتحقيق الخطط التنموية للدولة.
ليس له نصيب!
باحث مخضرم فضّل عدم ذكر اسمه لم يتردد بالقول”هناك ممارسات خاطئة من قبل الممسكين بزمام البحث العلمي، الذين يعملون دون خطط، فأدوات البحث معطلة، والإمكانات اللازمة غير متوفرة، وهذا ما يحتم ضرورة إجراء هزة تنفض غبار النمطية والاستسهال عن كاهل بحثنا العلمي الذي ليس له من اسمه نصيب”، متسائلاً: إلى متى يبقى البحث العلمي عندنا مجرد خطط وأرقام ورسوم بيانية على الورق الأبيض ؟!، فيما دعا الدكتور عمار ناصر آغا عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق خلال المؤتمر إلى توظيف وتوجيه طاقات وقدرات الباحثين وخاصة الشباب منهم إلى المسائل والموضوعات الحيوية والإستراتيجية التي تتناول مختلف الجوانب الحياتية والقطاعات التنموية.
سوء تصرف!
ويؤكد طلبة الدراسات العليا في كل من كليات الاقتصاد وبعض الكليات الهندسية بجامعة دمشق إلى أن سوء التصرف مع مشكلات البحث العلمي من قبل القائمين عليه وعدم إيجاد الحلول الجدية عقّد الكثير من الأمور، مشيرين إلى هجرة عدد لا بأس به من الكوادر البحثية التي أحبطت من عدم الاهتمام بتبني أبحاثها ووضعها في التطبيق، ما يشير إلى فساد إداري يحتاج لبتر حتى نضع البحث العلمي على السكة الصحيحة.
أرقام مخجلة!
مؤخراً تم رفع أجور تقييم الأبحاث والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه بالإضافة إلى أجور مكافأة الأبحاث التطبيقية وأصبحت على الشكل التالي: تعويض تقييم مقال علمي في المجلة المحكّمة 8000 ل.س- كان سابقاً 2000 ليرة، علماً أنه في جامعات عربية مجاورة لا يقل عن 100 دولار، وارتفعت أجرة الإشراف على درجة الماجستير إلى40000 ألف ليرة – كانت سابقاً 4000، والدكتوراه إلى 90000 ألف ليرة- كانت سابقاً 25000 ألف ليرة!، فيما قد لا تتعدى مكافأة انجاز بحث علمي تطبيقي لـ 400 ألف ليرة، وربما أكثر بقليل وهذا خاضع لتقييم مجلس كل جامعة، مع الإشارة إلى أن هناك شكوى من المزاجية التي تتعامل بها مجالس الجامعات بهذا الخصوص، حسب قول العديد من الباحثين!.
من الواضح أنه لا يوجد لدينا استراتيجيات عملية للبحث العلمي، رغم ما نسمعه من المعنيين في وزارة التعليم العالي والجامعات السورية، وللأمانة ومن أجل الإنصاف يبدو التعاطي مع قضايا البحث العلمي أكثر جدية في الهيئة العليا للبحث العلمي، فهي لديها محاولات جادة لتفعيل واستثمار الأبحاث وتحريك المياه الراكدة، لكن يد واحدة لا تصفّق!.
بالمحصلة هناك مشكلة وبلغة الاقتصاد لا تناسب بين العرض والطلب (أبحاث كثيرة واستجابة ضعيفة)، الأمر الذي أصاب خيرة الباحثين المخضرمين والشباب بداء الكسل البحثي، ودفع العديد منهم للنفور من العمل البحثي إلا لغرض الترقية العلمية، وبهكذا عقلية وآلية لا يمكن أبداً التقدم بمنظومة البحث العلمي، هناك حالة إحباط عند الباحثين الشباب منهم والمخضرمين لا يمكن انتشالهم منها “بجرعة ثقة” لا تدوم طويلاً!، بالإضافة إلى ضرورة تفعيل روابط التعاون مع مراكز بحثية وطنية وعربية وأجنبية.
هامش معلومات
مع انطلاق البحث العلمي في سورية بشكل رسمي عام 1958 مع تأسيس (المجلس الأعلى للعلوم)، تم عام 1970 أحدث نظام الدراسات العليا في الجامعات السورية في درجات الدبلوم والماجستير والدكتوراه، والتي تعتبر النواة الحقيقية للبحث العلمي، وفي عام 1975 صدور لأول مرة قانون تنظيم الجامعات والذي تم تعديله خلال السنوات القليلة الماضية، بل وما زال أساتذة الجامعة يطالبون بإجراء تعديلات أخرى ليناسب العملية التعليمية والبحثية، وفي ذات الوقت صدر قانون التفرغ العلمي للبحث العلمي والعمل المهني. وفي عام 1981 أحدثت هيئة الطاقة الذرية التي تعمل أيضاً في مجال البحث العلمي، مع الهيئة العامة للاستشعار عن بعد، كما صدر خلال تسعينيات القرن الماضي العديد من القرارات والمراسيم الخاصة بتشجيع وتحفيز العاملين في البحث العلمي، منها إطلاق جائزة باسل الأسد للبحث العلمي التي تمنح لأفضل بحث علمي يتميز بالأصالة والإبداع، وقد بلغ عدد الفائزين بها /44/ فائزاً منذ إطلاقها عام 1994 وذلك في مجالات العلوم الأساسية، والعلوم الهندسية، والعلوم الصحية، والفنون الجميلة، والعلوم الزراعية، والبيطرية، والعلوم الاجتماعية، والفلسفية والتربوية والنفسية واللغوية، والعلوم الاقتصادية والسياسية والإدارية والقانونية والشرعية، وفي العام 2006 صدر مرسوم إنشاء الهيئة العليا للبحث العلمي وأنيط بها تخطيط البحث العلمي في القطر ورسم السياسات الخاصة به وتنسيق البحوث والدراسات بين شتى مراكز البحوث والجامعات في القطر وإقرار الموازنة المالية لهذه البحوث.
وخلال الفترة الماضية تم إحداث صندوق لدعم البحث العلمي بأكثر من مليار ليرة سورية، وحسب المعنيين في مديرية البحث العلمي في وزارة التعليم تم انجاز قاعدة البيانات الخاصة بالبحث العلمي تتضمن أسماء كل أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات السورية وأسماء أعضاء الهيئة الفنية والمعيدين، كما تضم القاعدة كل رسائل الماجستير والدكتوراه وأسماء المجلات المحكمة وكل ما يتعلق بالبحث العلمي.