العقل والخيال
ناظم مهنا
العقل والخيال، هل هما توءمان أم خصمان، وأيهما كانت له البطولة في الأولية وفي الفاعلية؟ أسئلة ما برحت الفلسفة القديمة والحديثة تطرحها بشكل أو بآخر. ولكن كعادتها الفلسفة تطرح الأسئلة ولا تقدّم إجابات كاملة، بل تترك الأمر معلقاً في فضاء التساؤل! والخيال ليس أمراً ثانوياً، وقد شغل أذهان الفلاسفة العرب وكتبوا عنه بعمق: ابن سينا، والفارابي، وابن عربي والسهروردي، وابن رشد..
ويشكّل الخيال مع العقل ثنائية قديمة تتداخل وتتنافر في جدل الفلاسفة والمفكرين، ورغم تباين مواقف الفلاسفة من هاتين المسألتين ظلتا مرتبطتين بوشائج لا يمكن قطعها. كان الرومانسيون الانكليز في القرن التاسع عشر من أشد المتحمّسين للخيال كقيمة مطلقة في الشعر، ووصل الأمر عند بعضهم، ولاسيما وليم بليك، إلى تأليه الخيال واعتباره المنبع الوحيد للطاقة الروحية، بل هو يذهب أبعد من ذلك ويرى في الخيال عالم الأبدية اللانهائي. والخيال هو الوطن الحقيقي للشعراء، وهو الذي يكشف الحقيقة التي تخفيها المرئيات. وإذا كان في موقف بليك غلو في عبادة الخيال لم يبلغه غيره من الرومانسيين، إلا أنهم أجمعوا على أن الشعر من دون خيال ضرب من المستحيل! ومع ذلك لم يغفلوا للحظة حقيقة أن العقل هو حجر الزاوية لكل نشاط ذهني، وأن الخيال هو ثمرة العقل العملاقة.
الرومانسيون جميعاً أقرّوا بالعلاقة الوثيقة بين الخيال والواقع، ولكن ردّوا كل شيء للخيال، ومنهم من يرى أن لا شيء خارج تصوراتنا! وأن العقل دون خيال لا يفضي إلى شيء ذي قيمة. ولا يخلو الأمر من الحرج في عرض بعض آراء المتعصبين للخيال لأنها تلامس الهرطقة أو التجديف أو الوثنية أحياناً! وربما يعود الأمر إلى نزوعهم للفردانية وتمجيد الروح الفردية، وكردّة فعل على فكر القرن الثامن عشر الذي سُمّي بـ”عصر التحليل” أو عصر تمجيد العقل، وربَّما ردّ على فرنسيس بيكون، وأوغست كونت والوضعيين الذين ربطوا الخيال بالميتافيزيقية وبالأوهام. ويرى بيكون أن الخيال مجرد نشاط ممتع لا ضرر فيه. وآخر يقول: “إن الخيال هو الموهبة الميتة”. والفلاسفة العقلانيون محوروا نشاط الذهن وكل شيء حول مركزية الإنسان والعقل الإنساني، ودعوا بقوَّة للحدّ من سلطة الخيال وجنوحه نحو الفوضى، وأن كل شيء عقلاني واقعي، وكل واقعي هو عقلاني ولا يكترثون بما هو خارج الواقع. وبما أن الأمر أخذ منحى تصارعياً بين أنصار العقل وأنصار الخيال، وذهب العقليون إلى أنه لا يجوز وضع الخيال هذا الهزيل والمريض في مقارنة مع العقل المنتصر ذي السطوة والمهابة! ولا بد إذاً من جعل الخيال في مرتبة أدنى، واعترف بعضهم على مضض بأن العقل لا يعمل من دون خيال.
أما أسلافنا العرب، فقد كان لهم السبق في الخوض في هذا الصراع، لكن بالمجمل، وحسب اعتقاد الدكتور محمد المصباحي، أن الحضارة العربية الإسلامية في جوهرها هي حضارة عقل لا حضارة خيال، ويستدلّ على ذلك بأن اللغة العربية أوجدت ما يقارب من أربعين مرادفاً لكلمة العقل، بينما لم تعطِ لكلمة الخيال سوى مرادفات معدودة.
ومهما يكن، لا يمكن تجاهل دور الخيال في انتصارات العقل وفي الاكتشافات والحقائق العلمية، والإبداعات الفنية والأدبية، والخيال الإبداعي هو الخيال الحر الدفاق المشرق، والذي يشكّل قاعدة انطلاق للتفكير العقلي.
أحلام الفلاسفة، التي هي ضرب من الخيال حلمت بعالم عادل وبمدن سعيدة، وخيال الشعراء منذ ما قبل عصر العلم بكثير كان قد راود الفضاء، وما رحلات لوقيان السوري من القرن الثاني الميلادي المدهشة في الفضاء، والتي سبقت كل روايات الخيال العلمي إلا دليل صارخ على أن الخيال المنطلق يتحوّل إلى بصيرة ثاقبة.