وليد معماري على تخوم الصحراء
نعاه كلّ من عرفه عن قرب من أصدقاء وزملاء وتلاميذ، وكل من قرأ له وهو الذي كان ينطق باسم البسطاء والفقراء من خلال زاويته الشهيرة “قوس قزح” في صحيفة “تشرين”، والتي تحوّلت صفحتها الأخيرة – بفضل هذه الزاوية – إلى فاتحة القراءة للصحيفة، وقد تحقّق كل هذا النجاح لأن معماري كان مدركاً أن الصحافة موجهة لأوسع شريحة من القراء، وهذا يتطلّب تقديم الزاوية بأسلوب حكائي رشيق وجذاب، مع ضرورة تمرير المعلومات خلسة والابتعاد عن استعراض العضلات، وهو الذي يؤمن أن الزاوية الساخرة كما في “قوس قزح” يجب أن تلامس القضايا العامة وأوجاع الناس والتقاط المفارقة فيها، وكان يفسّر نجاح الزاوية شعبياً بحبّ الناس لنقد السلبيات وتعرية الخطأ، وقد قدم ذلك في “قوس قزح” بروح ساخرة، وبهذا يكون قد اجتمع عنصران مهمان للنجاح، مع إشارته إلى توفر عنصر الجرأة.
القتال بقلم الحبر
لم يذهب وليد معماري من الصحافة إلى الأدب بل أتى من الأدب إلى الصحافة، وتابع كأديب يكتب في الصحافة أكثر من كونه صحفياً يكتب في الأدب، ولم ينكر أن الصحافة كانت بمنزلة التمارين اليومية له على حمل القلم وتحبير الأوراق للاحتفاظ بلياقته في الكتابة، لذلك بيَّن في أحد حواراته أنه بدأ الخربشة على الورق منذ دخول عالم القراءة والكتابة، ومن ثم صار قارئاً نهماً للحرف المطبوع الذي كان يشدّه إليه ويحيله إلى عالم من السحر، فأغرته الكتابة لعلّه يصبح ساحراً يغيّر الكون، وكان يقول دوماً إن الحياة لم تمنحه عضلات يقاتل بها، ففضَّل القتال بقلم الحبر وبدأ بكتابة الشعر محاولاً أن يكون المتنبي أو نزار قباني، فنشر بعض أشعاره التي لم تلفت نظر أحد فاتجه إلى القصة، وأثارت قصته الأولى بعد النشر بعض الاهتمام، وهنا كان عليه أن يتابع خطوته الأولى، فأصدر مجموعته الأولى “أحزان صغيرة” عام 1971 والتي حوَت مجموعة قصص بسيطة في حكايتها ولغتها وامتازت بالبراءة وصيغت بتقنية عالية وتجلّى عمقُها في الموقف الإنساني شديد الحساسية وقد رأى أنها بدايات غير فجة، منوهاً بأنه تأثر فيها بعدد من الكتّاب أمثال وليم فوكنر ودستويفسكي وغوغول وتشيخوف وغوركي، ولأن الأدب لا يطعم خبزاً كان لا بد له من مهنة، وقد وفَّر له العمل الصحفي فرصة لا تتعارض مع حرفته الأدبية.
فحم من شرارة الروح
لم يعتمد أو يتعمّد معماري السخرية في كتابة القصة القصيرة، وكان يوضح أنه ثمة فرقا شاسعا بينه وبين عزيز نيسين وبينه وبين الكتّاب الساخرين السوريين، وأن خلطاً جرى بين قصصه وزاويته الصحفية “قوس قزح”، وهذا الخلط سببه أن معظم القراء الذين كانوا يتابعون الزاوية يظنون أن قصصه لابد أن تكون ساخرة، وهذا غير صحيح برأيه، مشيراً إلى أن إحدى قصصه التي اعتُبرت ساخرة (الرجل الذي رفسه البغل) كانت في منتهى الجدية وليس فيها أي سخرية، بل هي كوميديا سوداء، والفرق بين الكوميديا والسخرية كبير جداً برأيه: “حكاية الرجل الذي رفسه البغل تتحدث عن مواطن عادي مات نتيجة لرفسة بغل، والموت ليس مادة للسخرية بل انزياحات هذا الموت هو السخرية”، وفي الوقت الذي كانت فيه اللغة هي الهاجس الأكبر للنص القصصي في فترة السبعينيات لم تكن كذلك عند معماري، فقصصه كانت تستبعده، ومع هذا كان يرفض الاستخفاف باللغة، ويؤكد أن الكاتب يجب أن يحترم خصائص اللغة ودقائقها، ثم ينطلق وفقاً لذلك نحو استخدام لغة جديدة وسليمة، وكان يؤمن أن الكتابة عمل شاق واحتراق وإشعال فحم من شرارة الروح: “أنا كاتب يشبه بئراً على تخوم الصحراء، مياهه تتجمع قطرة قطرة في الشتاء وعليّ أن أنضح منه بروية وتقنين شديدين خوفاً من الجفاف.. أنا أنحت من الصخر ولا تغرنّك سلاسة أسلوبي”.
زرقاء اليمامة
عندما خاض وليد معماري تجربة كتابة السيناريو من خلال فيلم “شيء ما يحترق” عام 1992 مع المخرج غسان شميط أدرك عندما لم تستطع أفكاره الأولية اختراق الجدران أنه كان عليه أن يكون أكثر ذكاء من لجان الرقابة، وأن الفن في بعض القصص يجب أن يتحدث عن نبوءة حياتية قادمة أكثر من أن يكون قراءة لواقع حاضر: “على الفنان أن يقرأ ما سيحدث انطلاقاً مما يجري كي يكون زرقاء اليمامة التي رأت الغابة تمشي”.
أصعب أنواع الكتابة
حين عمل معماري في صحيفة “تشرين” التي خصّصت مساحة يومية لقصص الأطفال نشر قصصه التي كان يكتبها للأطفال، وهكذا وجد نفسه كاتباً لعشرات القصص الطفلية التي جمعها فيما بعد في مجموعات، إلا أن سنوات عديدة مرت بعد ذلك لم يكتب فيها للأطفال، وحين سئل عن السبب أجاب: “إما أن موهبتي في هذا المجال نضبت أو أن مجالات النشر ضعفت إلى درجة كبيرة”، مع إشارته إلى أن الأطفال صارت تعجبهم أفلام الكارتون أكثر من القصص، مؤكداً في الوقت ذاته أن الكتابة للأطفال ليست سهلة، ولعلها برأيه أصعب أنواع الكتابة وأكثرها جدية رغم استسهال البعض لها، في حين أن القصة المكتوبة للطفل مكتوبة بوعي ومنطقية وصرامة لغوية وحِرفية شديدة رغم ما قد يكون فيها من تخييل وأنسنة للحيوان والأشياء، وهذا لا بد منه في قصة الطفل لا لنجاح القصة وحسب، بل لخطورة موقع القارئ الذي تتوجّه له.
أكسجين للحياة
على الرغم من كتابته للسينما والتلفزيون ولمسرح الأطفال إلا أنه كان يؤكد أن عالمه هو القصة القصيرة التي لا يستطيع أن يكتبها كل يوم، لذلك ودفعاً للكسل والترهل كان يتجه إلى العمل في فن إبداعي كتابي آخر للوصول إلى أوسع عدد من الناس، لتبقى القصة القصيرة بالنسبة له هاجساً ينبثق عن فيض ذاته: “قد يكون قاتلاً إن لم ينبثق ويتفجر وهي في هذا تشبه كتابة الشعر، فالشعر بضاعة خاسرة، ومع ذلك لا يكفّ الشعراء عن الكتابة”، والأكثر رعباً بالنسبة له كان أن يستيقظ ذات يوم ويجد أنه فقد ملكة الكتابة مثلما يفقد المرء النطق وهي التي بالنسبة له أكسجين للحياة وسلاحه الوحيد وهويته الملتصقة به.
أمينة عباس