روسيا الأخلاقية… ملجأ الغرب الأخير
سمر سامي السمارة
في تحليل حديث جدير بالملاحظة، قدّم المهندس والكاتب الروسي ديميتري أورلوف حجة قد تبدو “سخيفة” في ظاهرها، لكنها في الواقع تحتوي على ما هو أعظم مما تبديه.
من حيث الجوهر، يقول أورلوف إن النقد الذي يُسمع كثيراً وينهال على الروس حول عدم إتقانهم أسلوب القوة الناعمة هو تصور مغلوط، وأن الأسلحة العسكرية المتطورة التي يتمّ الإعلان عنها على نطاق واسع ليست أقوى الأصول في ترسانة روسيا، وهنا يطرح أورلوف الفرضية المذهلة القائلة بأن أقوى سلاح لروسيا لم يعد سراً، بل بات في العلن ليراه الجميع.
هذا السلاح، وفقاً لأورلوف، هو تبني روسيا الساحر الذي تتفاخر فيه للحياة الطبيعية، ما يجعلها جذابة لعدد لا يُحصى من مواطني “العالم الحر” السابق ممن أصبحوا يكرهون انحطاط الغرب الذي يحاصرهم. لذا فهم يبحثون عن مجتمع بديل يتبنى تعزيز القيم التقليدية والإنسانية.
بالنسبة للكثيرين منهم، وبغضّ النظر عن السياسة، فإن روسيا المعاصرة تشكل على وجه التحديد نوع المجتمع الذي يفتقدونه في بلدانهم ويبحثون عنه الآن في مكان آخر. ويوضح أورلوف: “إنه عالم يرغب المزيد من الناس في الغرب في الهروب إليه، تاركين وراءهم مشهداً دمره فساد اليساريين، والندم القسري على جريمة الانتماء إلى عرق معيّن، ولا رغبة لهم في أن يعرضوا أنفسهم لتحقيق محاكم التفتيش غير المقدسة التي تفرض عقوبات على أولئك الذين ظلوا غير متحمسين وغير داعمين للشذوذ الجنسي، واضطراب الهوية الجنسية، وتدمير الأسر التقليدية وغسل أدمغة الشباب. حتى إذا لم يتمكنوا من الهروب، فيمكنهم الشعور بالراحة في معرفة وجود واقع بديل أكثر طبيعية وأقل ضرراً، ويمكنهم التعاطف معه سراً”.
إحاطات أورلوف الدفاعية، مقنعة بشكل لافت، بحيث تعطي فرصة للتفكير بشكل أعمق في فحوى حجته بدلاً من التركيز على الأمثلة المؤيدة التي يقدمها.
لربما لا يوجد في الغرب، الذي تعرض لغسيل دماغ، موجة كبيرة من الدعم الحقيقي لإحياء روسيا التقليدية التي تتشكل من جديد، لكن الوعي بأن الهويات الأخلاقية التي بدّدتها بشكل كبير الحرب الباردة، آخذ في الازدياد بشكل ملموس.
والحقيقة، فإن قراءة متمعنة لوسائل الإعلام الغربية تبرز سبب توق شرائح واسعة من السكان للحياة الطبيعية، وخاصة مع انتشار أمثلة عن الحماقات التي يعبّر عنها المشهد الثقافي للغرب المحتضر.
وعلى سبيل المثال، نجحت امرأة شابة ولدت بحالة إعاقة في بريطانيا برفع دعوى قضائية ضد طبيبة التوليد، لفشلها في منع ولادتها قبل عقدين من الزمن. وفي سويسرا، بمساعدة تقنية من هولندا، يتمّ تسويق كبسولة “الموت الرحيم” بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد للأشخاص الذين يميلون للانتحار ويرغبون في إنهاء وجودهم بسهولة وكفاءة، وذلك للالتفاف على العقبات الطبية والبيروقراطية القليلة المتبقية لمساعدة التدمير الذاتي.
بالإضافة إلى موضوع الموت الذي يبدو أنه استحوذ على الغرب المحتضر، فقد أصدرت ألمانيا مرسوماً سخيفاً للغاية، ينصّ على ضرورة التطعيم بلقاح كوفيد- 19 قبل القتل الرحيم ليتمّ تنفيذه بشكل قانوني. وفي مواجهة الطعون القانونية للقضية التي تتعلق بحق الإجهاض، والتي تُعرف بقضية “رو ضد وايد” التي تسمح بالإجهاض في الولايات المتحدة، أعلن حاكم كاليفورنيا غافين نيوسوم نيّته في جعل كاليفورنيا “ولاية ملاذ للإجهاض”، حيث لن تدفع أموال دافعي الضرائب لعمليات الإجهاض المحظورة في أي مكان آخر فحسب، ولكنها ستتحمّل أيضاً تكاليف السفر والإقامة للأشخاص الذين يأتون إلى كاليفورنيا لإجراء عمليات الإجهاض.
في الحقيقة، تزدهر ثقافة الموت بشكل متسارع في الغرب، حيث أصدرت مفوضية الاتحاد الأوروبي للمساواة “توجيه اتصال شامل” لتجنب كلمة “عيد الميلاد” الخاصة بـ”فترة العطلة” الأكثر شمولاً، وذلك بزعم، عدم الإساءة إلى أتباع الديانات الأخرى. على الرغم من أن المستفيدين المفترضين من إحاطة مفوضية الاتحاد المنافية للعقل، عاشوا قروناً جنباً إلى جنب مع المسيحيين دون أن يبدوا أي اعتراض على الإطلاق للاحتفالات الميلادية. وهذه، بالطبع، عينة تمثيلية محدودة للغاية للجنون المطلق المنتشر في العالم الغربي اليوم.
بدوره، يقول ديمتري أورلوف إن ما يجعل هذا التحول ملحوظاً بشكل خاص، أنه قبل عشر سنوات كانت القوة الناعمة لروسيا بالكاد موجودة، ومع ذلك، ظهرت معارضة صغيرة ولكن صريحة في وسط موسكو، مردّدة “إننا بحاجة إلى روسيا مختلفة”. لكن الآن مئات الملايين من الفرنسيين والألمان والأمريكيين وغيرهم في الغرب يردّدون إننا بحاجة إلى غرب مختلف.
كل ما ذكره أورلوف يمثل رؤيته الخاصة، لكن الأمر يستحق التكرار، فقد توقع المفكرون الروس اللامعون في القرن التاسع عشر، بمن فيهم دوستويفسكي بالفعل أنه ستكون لروسيا الكلمة الأخيرة قبل النهاية. يتابع أورلوف: “في غضون ذلك، بدأ بالفعل يتبلور هذا القرن ليكون روسياً، فهذا المستوى من القوة الناعمة يتجاوز أحلام أي شخص. في كل بلد يحاول الليبراليون إعادة تشكيله حسب رغبتهم، تكسب روسيا تلقائياً ملايين المعجبين، ما يجبر أي مواجهة جيوسياسية محتملة مع روسيا على التلاشي أمام القوة المحايدة لقيم تقليدية مشتركة، فقد اكتسبت طرقاً لا تُعدّ ولا تُحصى لتحويل الوضع الجيوسياسي لمصلحتها”.
على الرغم من الدرجات المتفاوتة في النهضة الحالية لروسيا، النهضة المشبعة بقيمها التقليدية، والأهم من ذلك، المثالية التي يعالجها الحسّ السليم لأفرادها الموهوبين بشكل كبير، فمن المحتّم أن تصبح أحد الأقطاب الحضارية الرئيسية للعالم متعدّد الأقطاب، حيث بحسب أورلوف سيلعب الانجذاب الثقافي دوراً أقوى بكثير من القوة العسكرية الغاشمة.