“الإتجار بالأشخاص”.. جرائم تتم تحت مظلة العمل والتبرع.. وغياب تام للمحاكم المختصة!
دمشق – لينا عدرة
بالأمس القريب، وحسب ما أفادت وسائل إعلام لبنانية، أقدم القضاء اللبناني على إصدار حكم بحق مقيمَين سوريين بتهمة الإتجار بالبشر، ليتم سجنهما وتغريمهما بمبالغ مالية بسبب إقدامهما على “شراء أطفال من سورية ليبيعوا الورد في لبنان”. وكما هو معلوم لدى الجميع، يعتبر موضوع الإتجار بالأشخاص من أبرز مشاكل العنف الناجم عن الحروب والنزاعات التي تؤدي لانتشار الجرائم، خاصة غير الاعتيادية منها، كالإتجار بالأشخاص، أو حتى الجرائم ذات الصلة الوثيقة بالإتجار، لتُشكّل الأزمة التي مرت بها البلاد مصدراً أساسياً لتأمين وقود لهذا النوع من الجرائم، خاصة أن خطورتها تكمن في أنها جريمة غير صريحة تتمثّل بصور كثيرة أغلبها ينضوي تحت مفاهيم اجتماعية، لا بل وتُعامل على أنها مشاكل اجتماعية كـ “التسول” أو “الزواج بالإكراه”، إضافة إلى أمر آخر يتمثّل بصعوبة الوصول إلى إحصائيات دقيقة حول الأشخاص المُتَاجَر بهم، أو تقدير حجم مأساتهم، مع عدم علم معظمهم بأنهم ضحية إتجار، ما يجعل التغلب على هذا النوع من الجرائم أمراً في غاية الصعوبة إلا في حال تمكنا من تحديد من هم ضحاياه بدقة؟!
وفي حديث مع “البعث”، بيّن العميد كفاح النداف، رئيس فرع التحقيق في إدارة مكافحة الإتجار بالأشخاص، عمل الإدارة “المحدثة بموجب المادة 17 من المرسوم التشريعي رقم 3 لعام 2010″، والمتمثّل بجمع معلومات عن شبكات الإتجار بالبشر، سواء “داخل القطر أو على المستويين الإقليمي والدولي”، إضافة لدورها في تلقي البلاغات والشكاوى المتعلقة بهذا النوع من الجرائم والتحقيق بها، ومعالجة وضع المُلقى القبض عليهم، وتقديمهم للقضاء المختص، وبناء قاعدة بيانات ومعلومات حول موضوع الإتجار كظاهرة من حيث “موطنها والتشكيلات الإجرامية للأشخاص، وضحايا هذا الجرم”، إضافة لتشديد الرقابة على المحلات العامة والفنادق، ومكاتب “الخدم والمكاتب العقارية”، ومتابعة نشاطها باعتبارها يمكن أن تكون مكاناً لمثل هذا النوع من الجرائم.
وأوضج العميد النداف أن من مهام إدارة مكافحة الإتجار بالأشخاص أيضاً التنسيق مع إدارة الهجرة والجوازات لمراقبة المنافذ الحدودية من جهة، ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لإيواء الضحايا من جهة أخرى لتقديم المساعدة لهم، وبالأخص “النساء والأطفال الذين يشكّلون النسبة الأكبر من الضحايا”، والاستمرار في مراقبة التقنيات الحديثة، لاسيما مواقع التواصل الاجتماعي لاستخراج أية إشارة أو معلومة يمكن أن تشير إلى نشاط ما “للإتجار بالأشخاص” كمتابعة الإعلانات الموجودة في الطرقات المتعلقة على سبيل المثال، بـ “التبرع بالكلى!”، عن طريق مكتب يتابع الإعلانات ومواقع التواصل الاجتماعي، ليباشر بعدها التحقيق والمتابعة لإلقاء القبض على الوسطاء الذين يستغلون حاجة الطرفين (سواء من يريد البيع أو من يريد الشراء).
ولم ينف العميد النداف إمكانية التبرع أو نقل الأعضاء لأسباب إنسانية، حسب ما نص عليه القانون رقم 30 لعام 2003، المتضمن “إمكانية غرس أو نقل عضو من شخص لآخر، على أن يتم ذلك ضمن شروط أهمها ألا تكون مقابل بدل مادي”.
ولفت رئيس فرع التحقيق في إدارة مكافحة الإتجار بالأشخاص إلى أن اللجنة الوطنية لمكافحة جرائم الإتجار بالبشر شجعت على ثقافة التبرع بالأعضاء، وقدمت اقتراحاً بتأسيس بنك للأعضاء، خاصة أن المادة 3 من القانون 30 نظمت “جواز نقل الأعضاء من شخص ميت وحفظها، أو غرسها لمريض بحاجة إليها في حالتين عبر وصية خطية للمتوفى، وموافقة خطية لأحد أفراد أسرته من الدرجة الأولى أو الثانية”، ولفت إلى أن عمل اللجنة الوطنية تشارك فيه كل الوزارات المعنية (الداخلية، العدل، الخارجية والمغتربين، التعليم العالي، الصحة، الأوقاف، الشؤون الاجتماعية والعمل، الإعلام، التربية).
وأقر العميد النداف بازدياد جرائم الإتجار بالأشخاص خلال فترة الأزمة.. ولكنها “ازدادت ولم تتضاعف”، خاصة في المناطق الحدودية “الشمالية الشرقية” التي كانت خارج سيطرة الدولة، لتنخفض بعد أعادت الدولة بسط سيطرتها عليها، ولتبقى حسب التصنيفات القانونية ضمن النسب المنخفضة.
ويشير النداف إلى المادة 4 من المرسوم رقم 3 لعام 2010، والتي حددت ستة أفعال تعتبر إتجاراً بالأشخاص، وهي استدراج الأشخاص، أو استقبالهم، أو اختطافهم، أو إيواءهم، ونقلهم، أو ترحيلهم لاستخدامهم في أعمال أو غايات غير مشروعة لقاء المنفعة المادية، لتتعدد صور الإتجار بالبشر بين دعارة الغير، والأشكال الأخرى للاستغلال الجنسي، والعمل أو الخدمات الجبرية، والرق والممارسات الشبيهة به، بما فيها استغلال العمالة المنزلية بما يخالف التشريعات الناظمة لاستقدام العاملات في المنازل، والإتجار بالأعضاء البشرية، وبالأطفال لغرض استغلالهم في الأنشطة الإجرامية التي تتنوع بين: “الدعارة والسخرة، والمواد الإباحية والتهجير غير المشروع، وصولاً لاستغلال حاجة الأشخاص لتأمين مغادرتهم إلى بلاد أخرى بطرق غير شرعية”، لتُشكّل مخيمات اللجوء الموجودة في الدول المحيطة مكاناً خصباً لهذا النوع من الجرم من خلال استغلال السوريين المتواجدين هناك، وإغرائهم بمغريات مادية، أو إجبارهم عبر “حجز وثائق وأوراق رسمية تعود لهم.
وفيما يخص معاودة التعاون مع منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الأنتربول الدولي) بعد انقطاعه خلال فترة الأزمة، فأوضح النداف أن ذلك تم منذ شهرين، حيث حضرت سورية مؤخراً مؤتمراً دولياً للأنتربول تم عقده في اسطنبول، بعد أن اقتصر التعاون الإقليمي خلال فترة الأزمة مع لبنان فقط دون غيره من الدول المحيطة بنا، مشدداً في ختام حديثه على ضرورة إحداث قضاء مختص بجرائم الإتجار “إحداث نيابة عامة متخصصة بالإتجار بالأشخاص”، أسوة ببعض أنواع الجرائم المستحدثة كالمالية والمعلوماتية.
من جهته، أكد الرئيس الفخري للطب الشرعي، الدكتور حسين نوفل، أن سورية قبل الأزمة كانت بلد مرور فيما يخص الإتجار بالأشخاص، لتتحول اليوم وبسبب الحرب وما خلّفته من فقر واستغلال لمصدر من مصادره، مضيفاً: بإمكاننا اعتبار التسول أبرز أشكاله، لما ينضوي تحته من “تجنيد” للأطفال يأخذ لاحقاً بُعداً أوسع كتدريبهم على السرقات، أو حتى استغلالهم جنسياً، أو بيعهم وإرسالهم لدولة أخرى.
وبيّن د. نوفل الفرق بين الدعارة وإجبار الفتيات على ممارسة الجنس كشكل من أشكال الإتجار بالبشر، مؤكداً أن القانون ينظر للدعارة على أنها جماع مقابل المال، لذا علينا التفريق بين من تمارس الدعارة على الرغم من أن وضعها المادي جيد، لتقوم بفعلتها برغبة شخصية منها، الأمر الذي تتم معالجته لاحقاً من قبل” الآداب”، وبين من يستَغِل فتيات ويجبرهن على ممارسة الجنس مع الغير، الأمر الذي يعد إتجاراً.
وأسف الدكتور نوفل لما يحدث عادة عند وصول هذا النوع من القضايا إلى القضاء الذي لا يرى فيها إلا دعارة، رغم قيام إدارة مكافحة الإتجار بالبشر بإلقاء القبض على الشبكات المتورطة، ورغم سقوط شهداء من عناصر الإدارة نفسها، ورغم الصعوبات التي تتخللها عمليات المتابعة وإلقاء القبض، والتي لا تعتبر سهلة إطلاقاً، لما تحتاجه من موافقات كثيرة، خاصة أن الشبكات من هذا النوع متداخلة ولها علاقاتها الأفقية والعمودية؛ فما يحدث هو أن محامي المجرم يدفعون باتجاه تغيير التوصيف الجرمي، على الرغم من وضوح الأمر بشكل جلي، بحيث تتحول الضحية إلى مدانة، ولا يُحاكم أحد من الُمشغلين.
وبناء على ذلك، يرى د. نوفل أن المشكلة تكمن عند القضاء، خاصة مع عدم تسجيل أية حالة إتجار بالأشخاص في سورية حتى هذه اللحظة، إذ يراها القضاء بأشكال أخرى، ولا يعتبرها إتجاراً.
أيضاً هناك شكل آخر من أشكال الإتجار – يضيف د. نوفل – يتعلق بإعلانات “التبرع بالكلى” الموجودة في الشوارع، والتي تعتبر شكلاً من الإتجار بالبشر، مشيراً إلى آلية التبرع والطرق القانونية المنظّمة التي يعمل بها بنك الدم عند حاجته لمتبرعين على سبيل المثال، مؤكداً أنه نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تسببت بها الحرب، ازداد عدد الأشخاص المستعدين لبيع أعضائهم، وبسعر منخفض أصلاً، لنصل في كثير من الأحيان لتهريب هذه الأعضاء خارج القطر، والأمر حاصل أيضاً في مخيمات اللجوء، وتتحمّل مسؤوليته الأمم المتحدة والدول المعنية، خاصة مع الاستغلال الواضح، وبمختلف الأشكال، لمن هم هناك، وعدم قدرتهم حتى على تقديم الشكوى، وهو استغلال جلي حتى من قبل بعض العاملين في المنظمات الدولية!!
وانطلاقاً من الموضوع نفسه، يُعرّج د. نوفل على قرار وزارة المالية المتعلق “بتحويل مكاتب المحامين وعيادات الأطباء لتجارية”، مبيّناً أن التاجر فقط هو من يقوم بالبيع والشراء، وبمثل هكذا قرار نعتبر الطبيب تاجراً، والمريض سلعة، وهذا تفكير يشبه “الإتجار بالأشخاص”، مؤكداً أن هؤلاء، من “أطباء وصيادلة ومحامين”، يقدمون خدمات فكرية وإنسانية، ومهنة كمهنة الطب ليست بالتجارية، الأمر الذي ينسحب على مهن كالمحاماة والهندسة والصيدلة.