صناعة الرموز الإيجابية والسلبية
لم يستهدف التخريب الذي مورس على سورية الأرض فقط، بل حاول أعداؤنا أن ينالوا من الإنسان السوري بكل مكنوناته، وقامت الحرب في إحدى جوانبها على تشويه رموزنا الإيجابية، ولاسيما الوطنية منها، وهو ما أوضحته الندوة التي أقيمت مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة ضمن سلسلة الغزو الثقافي التي يشرف عليها الإعلامي محمد خالد الخضر، وقد كانت تحت عنوان “صناعة الرموز الإيجابية والسلبية” وشارك فيها الأساتذة الأرقم الزعبي عضو المكتب التنفيذي في اتحاد الكتّاب العرب ود. الباحث بكور عروب منسق بحوث الرأي العام في مركز الدراسات.
مصدر مصادر الهوية الوطنية
أكد الباحث الأرقم الزعبي أن ديدن كل أمة تمجيد رموزها، ولاسيما الوطنية منها، وديدن أعداء كل أمة تشويه هذه الرموز التي تعاديها لتوهن من عزم الأمة وقدرتها لأن الرموز الوطنية فيما إذا حسن توظيفها تربوياً وأسرياً وإعلامياً ودينياً وأدبياً تصبح منارة عزة وقدوة، ولاسيما لجيل الشباب والناشئة، ولأنها مصدر مصادر الهوية الوطنية الجامعة وركن أساسي من أركانها برأيه تعمل بعض الأمم التي ليس لها عراقة تاريخية على صناعة رموزها كي تؤسّس لتاريخ الأجيال القادمة، في حين يحق لنا نحن السوريين أصحاب الحضارة العريقة أن نفاخر بحضارتنا ورموزنا التي تتشكل جيلاً بعد جيل والتي كانت لنا القدوة والمثال، مؤكداً أن تاريخنا يضمّ الكثير من هذه الرموز كشهداء السادس من أيار ورجال الثورة السورية الذين وقفوا ضد المستعمر الفرنسي، وكم نفخر اليوم بيوسف العظمة وإبراهيم هنانو وصالح العلي وسلطان باشا الأطرش وفارس الخوري المتمسّك بهويته الوطنية الرافضة للهوية الدينية الضيقة، مبيناً أنها شخصيات تحوّلت إلى رموز في التاريخ والحاضر السوري إلى جانب أبطال كثر تحولوا إلى رموز خلال الحرب على سورية من رجال الجيش العربي السوري الذين صانوا وحدة التراب، مشيراً إلى أن هذه الرموز وغيرها من الرموز الحاضرة تمثّل القدوة لأجيالنا القادمة، لذلك دأب العدو على النيل منها من خلال الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي وجيش من المعلّقين والمحللين لتشويه رمزيتها داخلياً وخارجياً، وللنيل كذلك من رمزية التعايش والتسامح التي يتمتّع به المجتمع السوري ومن لغتنا العربية التي تُعَدّ رمزاً من رموزنا الوطنية ومحاولة تكريس احتلال الأراضي السوريّة من قبل الكيان الصهيوني وتركيا، وهو اعتداء على رمزية الحدود السورية المنصوص عنها دستورياً، والعمل على خلق أعلام دينية وسياسية وقومية واستبدال رموزنا الوطنية الأخرى كالنشيد العربي السوري ودستورنا وجيشنا والتسويق في عصر العولمة والغزو الثقافي الذي نعيشه لرموز سيئة خارجة عن القانون، مع محاولات لإطلاق ما يُسمّى بـ “الهوية الكوكبية” بهدف ذوبان الهوية الوطنية الرمز في مستنقع تضيع فيه أركانها وسماتها، واستبدال مفهوم الدولة بدويلات تحت عنوان حق التعبير عن الخصوصية. من هنا أكد الزعبي أن مسؤولية الحفاظ على الرموز الوطنية وصناعتها تقع على كاهل المجتمع -الأسرة والمدرسة والمجتمع الأهلي والمؤسسات الحكومية والإعلام وصنّاع الرأي العام – خاصة وأن شبابنا يعانون من فراغ، فإذا لم نؤكد على رموزنا ورفدها برموز حقيقية ستصبح رموزهم ما يتلقفونه من وسائل التواصل الاجتماعي وسينسون صلاح الدين ويتذكرون محمد صلاح، وسيستبدلون يوسف العظمة بأحد مغني المحلات، لذلك رأى الزعبي ضرورة أن تتضمن المناهج التعليمية أسماء وأفعال الرموز الوطنية على تنوعها الفني والأدبي والفكري، والعمل من قبل وسائل إعلامنا على تسويق الرموز الحالية إلى جانب الأدب وباقي الفنون كالشعر والقصة والمسرح والسينما والموسيقا التي يجب برأيه احترامها والتعريف بها بأسلوب أدبي وفني ماتع.
قتل البطل الإيجابي
وأشار الباحث د. بكور عروب إلى أن الثقافة ليس كل ما يُكتب في الكتب، فهي مجموع العقل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وفي كل حقل من هذه الحقول رموز يُعمَل اليوم على تشويهها وصناعة رموز أخرى لخلق منظومة عاجزة لتذويب روح القدوة في المجتمعات بإخراج نماذج فارغة لا تُعبّر حقيقةً لا عن مصلحة الوطن ولا يمكن أن ترسم مستقبلاً في هذا المجال، والهدف منها – برأيه – إشغال الشباب وباقي كيانات المجتمع ومكوناته، وهذا ما أشار إليه الكاتب الكندي آلان دَلون، عام 2016، في كتابه “عصر التفاهة” حين بيّن فيه كيف يُحاك لهذا العالم لأن تحلّ منظومة تافهة تأخذ من المجتمعات أغلب الرموز الوطنية والمسارات الحقيقية ذات الأصالة وتقزيمها ومحاصرتها اقتصادياً، وهو ما يحدث اليوم حين تُغتال اقتصادياً الطبقة الوسطى الصانعة لها ليكون الإعلام الأداة الأساسية لاغتيالها لتغيب روح القدوة في المجتمعات الوطنية من خلال قتل البطل الإيجابي وتلميع وتظهير نماذج سلبية فارغة لا تحمل أيْ معطى وطني، موضحاً أنه وخلال الأزمة السوريّة اختفتْ الكثير من الأسماء والاحتياجات لمصلحة أسماء واهتمامات خاصة، متسائلاً ماذا فعل الأدب في تعويم النموذج البطل خلال الحرب؟ وماذا قدّم لأمثال أم فواز، المرأة السورية التي قدّمت للوطن خمسة من الشهداء وزوجاً شهيداً، ولباسل قرفول العسكري الذي تحدّى الإرهابيين في حلب ودمّر إحدى عشرة دبابة وصمد لمدة ست ساعات منفرداً؟
وبين د. عروب أن صناعة الرمز الوطني هي قضية وطنية تتكاتف جميع المؤسسات من أجلها، وأول من يجب أن يتولاها هو المثقف نفسه بتعويمها لأن الرمز لا يُصنع فقط على شاشات التلفزيون وفي وسائل الإعلام بل يُزرع زراعةً في ضمير المُجتمع، فالمثقفون برأيه هم المبادرون لصناعة الرمز ولفت النظر للمؤسسات الوطنية المختلفة للاهتمام بها بمساعدة جميع وسائل الإعلام والثقافة لاستعادة الرمز والقدوة الإيجابية في المجتمع السوري ومساعدته على أن يكون قويّاً في المنشور والانتشار والتسويق، لأن إعادة صناعة الرمز في المجتمع السوري هي إحدى الضرورات التي تقوّي هذا المجتمع، وتزيد من صلابته، مؤكداً أن سورية لا تخلو من المنتجات الأدبية والإعلامية والسياسية والاقتصادية، وهي موجودة بمواصفات عالمية لكنها لا تجد من يدعمها على مستوى الانتشار، وإن وُجِدَت فهي لا تجد فرصة التسويق وما بعد التسويق.
أمينة عباس