وقفة مع الطبيعة
عبد الكريم النّاعم
الطبيعة المحيطة بنا بمثابة الأمّ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه العلاقة الأموميّة، النّشأويّة فقال عزّ وجلّ: “هو الّذي أَنْشّأَكمْ من الأرضِ واستعمركمْ فيها”، وثمّة من الحكماء الإلهيّين مَن يرى أنّ الطبيعة كائن حيّ، والكائن الحيّ يتجنّب من يؤذيه، وإذا أمكنَه الدفاع عن نفسه فإنّه لا يتأخّر، ولربّما كانت بعض الظواهر الطبيعيّة التي نشكو منها، ومن آثارها السلبيّة، ربّما كانت دفاع الطبيعة عن نفسها.
لقد بالغ الإنسان في تلويثه للطبيعة غير آبهٍ بما يجرّه من خراب، وحين بلغ حدّ الإسراف ظهرتْ بوادر طبيعيّة ربّما كانت هي دفْعُ الطبيعة الأذى عن نفسها، فلم تتقبّل هذا الكمّ من التلوّث الذي ينتج عن المعامل، والذي شمل الأرض كما شمل البحار والأجواء المحيطة بكرتنا الأرضيّة، وها نحن نُواجه احتباساً حراريّاً أدى إلى ذوبان الكُتَل الجليديّة في القطب الشمالي بنسبة خطيرة.
كما أدى إلى ثقب الأوزون الذي له نتائجه المدمّرة إن استمرّ، والدّول الصناعيّة الكبرى لا همّ لها إلاّ تحقيق الأرباح ولو على حساب تدمير هذا الكوكب، وهذا لا يؤدّي إلى تفشّى الأمراض العضويّة فقط، بل يشمل حتى الأمراض النفسيّة، بحكم التّعالق الكائن بين الطبيعة والإنسان.
ثمّة رأي يقول إنّنا في وطننا العربيّ الكبير لم نُعِرْ الطبيعة اهتماماً يليق بجوهر عطائها، وخُضرتها، ونضارتها، فنتج، فيما نتج، في جانب منه، ذلك التلوّث في النّفوس، ورافقه تلوّثات أخرى فكريّة، وعمليّة، فأدّت إلى مواجهة الذين زرعوا الخراب في كلّ مكان، وإذا كانت الطبيعة تُرمّم جراحها بنفسها، فإنّ علينا أن نعمل الكثير لترميم التلوّثات الفكريّة، والتي من بعض مفُرزاتها انتشار الفساد.
قرأنا فيما قرأنا أنّ بعض المواطنين في اليابان يذهبون أيام العطلة إلى الغابات، فيحضن كلّ منهم شجرة لتمتصّ ما فيه من طاقات سلبيّة، فهي كما تمتصّ غاز الكربون لتصفّي الجوّ، تمتصّ الطاقات السلبيّة من جسد الإنسان.
ونظلّ في اليابان فقد شاهدت على صفحة الفيسبوك صورة لإحدى مُدنها وقد افترشت الغزلان الأرصفة الخضراء فيها، وبعضها يتجوّل في الشارع، مستأنساً لا يُروّعه شيء، فتبادرت إلى ذهني ما كانت عليه البادية السوريّة حتى خمسينات القرن الماضي، فقد كانت تعجّ بقطعان الغزلان، وقد اختفت الآن من تلك الأمكنة، فقد أبادها الصيّادون الجَهَلة، لا لحاجتهم للحومها التي يمكن الاستغناء عنها بأيّ لحم آخر، بل للتباهي الأجوف، فقد كان البعض يحصد تلك القطعان الجميلة الرائعة بالرشاشات، ليصيد أكبر عدد منها، وهكذا زدنا جرادة البوادي جرادة أخرى.
إنّ الفارق بيننا وبين من يحافظون على التوازن البيئي هو فارق نوعيّ في الوعي، وفي المسؤوليّة في حفظ الأنواع التي حبانا بها الله.
من البداهة القول إنّ نفوس سكّان البلاد التي تنتشر فيها الخُضرة، والبساتين والأشجار والغابات، هي أطرى من نفوس سكّان الصحاري والبوادي، بحكم التفاعل الحيّ بين الإنسان ومُحيطه، وهذا يطرح سؤالاً في السياق هو: هل الإكثار من الحدائق والمسطّحات الخضراء يمكن أن يكون مادّة لتحوّلات نفسيّة خضراء طريّة، مع النفس ومع الجار، ومع الآخر بعامّة؟!!
هذا السؤال استدعى إلى ذاكرتي ما ذُكر من أنّ (المارستانات) في هذه البلاد قديماً، كان للماء المتدفّق، والخُضرة المحيطة بالمرضى، أثر كبير في الخروج من دائرة أمراضهم النفسيّة، وقد أضافوا لها شيئاً من الموسيقا الراقية، والمعُبِّرة، فاستكملت النفس المريضة، أو المًمْرَضة نواقصها فخرجت من ذلك الأسار، والعزلة التي أخلّت بالعقل.
أحد أحلام العديدين أن تنتشر الخُضرة، وأن نحافظ على ما هو أخضر، وطريّ، وعذب، لنمهّد للخروج من بعض ما نحن فيه.
Aaalnaem@gmail.com