حمامات حلب ذكريات شعبية وأجواء شعرية
البعث الأسبوعية- غالية خوجة
تتميز سورية العريقة بما لا يحصى من الآثار والأوابد التأريخية المحلية العالمية الإنسانية، والحمامات جزء من هذه المكانة العتيقة في الذاكرة الشعبية القديمة والمعاصرة، وهي محطة لا بد منها في حياة أهالي حلب، لأنهم يعتبرونها طقساً من طقوسهم العائلية وتقاليدهم وعاداتهم، كما أنها مكان لمناسباتهم المختلفة مثل حمام العرس، وحمام الولادة، وحمام الشفاء، وحمام العيد، وحمام الترويح عن النفس.
عراقة صحية ونفسية وفنية
وتعتبر الحمامات تجسيداً لنظافة شاملة، ورحلة سياحية ترفيهية، وطقساً للفرح والتجمع الأسري والعائلي، وتجمع الأقارب والأصدقاء والصديقات والجيران، والجميع لا بد أن يكون سعيداً بهذا الحمام الذي يطلق عليه الحلبية “حمام السوق”، فيخضعون لقوانينه بين غرفة وغرفة منها غرفة الاستقبال تتوسطها نافورة ماء، وتحيط بها مقاعد حجرية “مصاطب”، ويجلس حواليها الزائرون بأغطيتهم وقباقيبهم استعداداً لمواصلة الرحلة، ويتهيأون مع مشروباتهم المفضلة من شاي وقهوة ومشرب ومأكل، ثم ينتقلون إلى غرفة البخار الأقرب إلى “الساونا”، وغرفة “المكيسة” أي المنظفة، ليعودوا إلى الجلسة الأخيرة بعد الاستحمام متهيئين للخروج، بعدما أنهوا يومهم وأكلوا وشربوا وتمازحوا وأتموا سعادتهم بموعد جديد لزيارة جديدة.
وعادة ما تتألف الحمامات من 4 أقسام تراعي حرارة الجسم صحياً، تبدأ مع الصالة الباردة “البراني” أي القاعة الخارجية الواسعة المغطاة، تتضمن مقاعد حجرية طويلة، وبركة ماء، ولها أبواب ونوافذ، ثم الصالة الفاترة “الوسطاني” وتتألف من جرون حجرية وأنابيب ماء ساخن وبارد وطاسات نحاسية ومقاعد حجرية، ولها باب آخر للوصول إلى القسم الثالث وهو الصالة الحامية “الجواني” المؤلفة من مقعد واحد مرتفع يجلس عليه المستحمون للتعرق، فيتأملون الإضاءة الخافتة القادمة من النوافذ العالية الملونة غالباً، وقد تتضمن في حمامات أخرى حوضاً يشبه حوض السباحة، أمّا القسم الأخير فهو “بيت النار” لأن حرارته مرتفعة جداً، ولا يمكن للشخص أن يمكث فيه أكثر من ربع ساعة.
وتنقسم الحمامات إلى نسائية ورجالية تبعاً للأوقات المخصصة، وعادة ما تكون صباحية للرجال، أمّا فترة بعد الظهر فتكون للنساء.
حكاية معتّقة
ويعود تأريخ الحمامات الحلبية إلى بداية القرن الثالث عشر ميلادي، وعددها كبير منذ ذاك الوقت، وترتبط بالمدينة القديمة لطبيعة الحياة والمخطط البنائي والاستلزامات الحياتية، لذلك، غالباً، ما نجد في كل حي حمام مرتبط به، مثل حمام حي الجديدة، وحمام النحاسين ـ سابقاً حمام الست، حمام الصالحية قرب باب المقام، حمام باب الأحمر الذي أعيد افتتاحه حالياً، حمام الجوهري، حمام البياضة، حمام العفيفي المشيد منذ عام 1212م، حمام الشماس، حمام ابن عصروني في حي السويقة، حمام العفوي في باب الجنان، وحمام القلعة، وحمام الويضي بالوراقة على ضفة نهر قويق، حمام غرناطة، حمام الواساني، حمام الجسر، حمام الألمجي، حمام ساحة بزة، حمام القباني، حمام القاضي، حمام هنانو، حمام مستدام بك، حمام سوق الغزل، حمام البساتنة، حمام المالحة، حمام قرلق، وحمام القواص القريب من باب النصر والذي دمّر ولكنه استعاد حضوره حالياً.
ويؤكد المؤرخ الباحث “إبن الشداد” في كتابه “الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة” على وجود 71 حمّاماً داخل حلب فقط، بالإضافة إلى وجود 31 حمّاماً في البيوت الخاصة و28 حمّاماً عاماً خارج أسوار المدينة و6 حمّامات خارج باب أنطاكية و3 حمّامات خارج الحلبة و24 حمّاماً في البساتين و7 حمّامات خارج باب الجنان و11 حمّاماً في الرمضانية، وقد وصل مجموعها إلى 195 حمّاماً.
فنون هندسية
بينما يروي إبن الشحنة بأن معظم تلك الحمّامات انهدم وشيّد بعدها حمّامات جديدة، منها “حمّام السلطان” و”البهرمية” و”الذهب” و”البيلوني” وغيرها، أما “حمّام سيف يلبغا الناصري” المملوكي، وسابقاً كان يعرف بـ”اللبابيدية”، فلم يُشيَّد في حلب حمّام يُضاهيه جمالاً وهندسة وأسلوباً فنياً وعمارة وفرادة، كما أنه يتميز بموقعه الاستثنائي أمام قلعة حلب من الجهة الجنوبية، وقربه من أسواق المدينة وخاناتها، وهذا الحمام العربي المميز مشيد بحجارة صفراء وسوداء تشكّل لوحات فنية، بينما تتوزع أقسامه الرئيسة إلى الجواني والوسطاني والبراني، تعلوه قبة عالية، وتجذبنا جدرانه إلى زخرفتها المنعكسة على البلاط وماء البركة المتمركزة في الوسط، ويضم القسم الوسطاني 6 خلوات، بينما بيت النار فيكون في الجواني الذي تحيط به 3 إيوانات وخلوتان إحداها خلوة للبخار وفيه بئر كان يسخن بالبخار، وتتوسطه قبة واسعة مثمنة الأضلاع.
الحياة تعود
ومعروفة حلب بموقعها الاستراتيجي التأريخي الهام ثقافياً وفنياً وتجارياً واقتصادياً ودينياً وجغرافياً، فهي من أقدم المدن والعلامات الإنسانية المأهولة منذ آلاف السنين المنفتحة على التبادل الثقافي والإنساني، ولا بد لقوافل التجارة والحج أن تزورها منذ قديم الزمان وصولاً إلى طريق الحرير الشمالي والجنوبي عبوراً إلى وقتنا المعاصر، لذلك كانت وما زالت تسعى لتوفير متطلبات الحياة لتجعل الناس سعداء، ومن هذه المتطلبات الحمامات المتسمة بنشر الطمأنينة والمحبة والتجدد، والمتسمة بتفاصيل عمرانية متشابهة، أهمها بناؤها العمراني التراثي من توزيع الغرف والمداخل والنافورة والقباب المزخرفة ومصاطب الجلوس والنقوش على القناطر والأبواب.
ولقد بدأ مشروع إعادة ترميم المدينة القديمة منذ عام 2007 لتعود إلى حياة أجمل، لكن الحرب العشرية الإرهابية دمرت الكثير من المعالم الأثرية لحلب القديمة المعتبرة من التراث الإنساني العالمي في منظمة اليونسكو، ولكنها ستعود أجمل مع إعادة التأهيل والإعمار المتسارعة كما عادت أسواقها وجامعها الأموي الكبير وآثارها الأخرى.