عتبة الذاكرة
سلوى عباس
إنه اليوم الأخير من عام كان مفصلياً في حياتها، هذا اليوم الذي يشكّل عتبة فاصلة بين تاريخ يمتد لأعوام أربعين غرقت فيها بتفاصيل العمل والحياة، تأرجحت أيامها فيها بين مفارقات كثيرة لم تكن حينها لتعطيها انتباهها، فعجلة الزمن كانت الأسرع.. ومضت الأيام لترى نفسها على ناصية عمر جديد يختلف بحيثياته عن كل ماعاشته قبل هذا اليوم.
في هذا اليوم خرجت من بيتها، مشت في الطريق لا تلوي إلا على ذاكرة تعود إلى أكثر من نصف قرن من الزمن، راحت تستحضر فيها أياماً مضت.. تستحضر ذكرياتها التي عاشتها في مدينة لم تعد ملامحها تشبهها، مدينتها التي عادت لتستقر فيها ليس بسبب حنينها لأول منزل حسب الشاعر “أبي تمام”، بل لأن أسباب بقائها في المدينة التي احتضنتها لأربعين عاماً لم تعد مجدية بعد أن انتهى عملها الوظيفي فيها – ولو أنها لا تدري إن كانت لديها الرغبة بالبقاء فيها أم لا – ولم يكن أمامها إلا أن تعود إلى مدينة احتضنت خطواتها الأولى في الحياة، ولا تدري كم سيمتد بها الزمن باحتضان ما بقي لها من عمر.
في هذا اليوم الذي يشكّل عتبة جديدة لتاريخ جديد وحياة تختلف عن كل ما عاشته سابقاً خرجت تستقرئ روحها في فضاء رحب بعيداً عن اكتظاظ الناس وضجيج المدينة، لترى نفسها في متاهة الأمكنة حيث اتسع المكان لأزقة وحارات لم تعهدها من قبل، تدخل حارة لتخرج منها إلى زقاق آخر دون إدراك للاتجاهات، فالمدينة تغيّرت ملامحها التي نقشت في ذاكرتها، ومساحة العمران أصبحت أوسع!.
ارتبكت الأنحاء حولها، واستوطن روحها همّ ثقيل مربك أوقفها على حافة الألم. كان كل الإحساس بالغربة واشتعال الانتظار، وفي لحظة شاردة، وجدت نفسها في مواجهة مع البحر، ذلك الواسع الفسيح الذي مثّل ذاكرتها الأولى في تلك المدينة، رغم أنها في تلك اللحظة لم تلمس فيه ذلك الإحساس الفطري الذي انتابها عندما رأته لأول مرة، فلم يعد هذا الفسيح الذي فتح حينها في روحها مئات الأسئلة التي لم تجد جواباً لأيّ منها حتى الآن، فشاطئه أصبح مستملكاً للنوادي الرياضية والمنشآت السياحية والكافيتريات التي لا تحمل أي خصوصية من خصوصيات هذا الأزرق الجميل، وحتى المقهى البحري الذي كثيراً ما جلست فيه مع صديقتها الوحيدة التي بقيت لها من ماضي مدينتها اختلفت تفاصيله واستوطنته وحشة ما.
جلست وحيدة وسط انشغالات الكون بترتيب أوراق الزمن بعيداً عن وقتها، تلجأ إلى طاولة في ذلك المقهى، وحيدة تجلس بين الناس والطاولات ولغو الأحاديث.. وحيدة بين السماء وانكسارات الموج على حافة الشرفة القريبة، بين طيور بيضاء ترخي جناحها وتطفو على سطح الماء، وبين صيادين يعيدون صناراتهم كل مرة إلى الماء ويخرجونها بلا سمك.
خرجت من المقهى في طريق العودة إلى البيت، طريق آخر مغاير للطريق الذي أتت منه، وكم فاجأها التغيّر الذي طرأ على مدينتها التي شكلتها بكثير من هدوئها ورحابتها، راحت تتفرس الوجوه علّها تعثر على شخص تعرفه ولكن بلا جدوى، فالصغار كبروا ومن كانوا من جيلها أخذتهم الحياة في مساربها. أكملت مشوارها، وبين كل مسافة وأخرى كانت ترى البيوت التي تشكّل ذاكرة هذه المدينة وقد نفضت عنها ماضيها، لتعيش حاضراً يتماشى مع المتطلبات الحياتية الحديثة، دون أي حفاظ على روحها الأثرية، فمدينتها تعود في التاريخ إلى زمن بعيد، ومثلها مثل كل المدن التاريخية، استُثمرت بيوتها في مجالات ترفيهية، بحجة الحفاظ على روح المكان الذي يختزن عبق الماضي.
تابعت طريقها، وكل شيء يسير هادئاً حولها إلا خلاياها التي تضجّ وتضطرب كأنها تغلي دون نار، وقلبها الذي خفق بحب هذه المدينة، أربكه نبضه، إلا أن ما كانت واعية له أنها ستظل متعلقة بحبل من ذكريات يساعدها على احتمال القادم من الأيام.