مجلة البعث الأسبوعية

مراحل تطور العلاقات الأمريكية الصينية من الوئام الى التوتر

البعث الأسبوعية- قسم الدراسات

تعود جذور العلاقة الأميركية-الصينية إلى القرن التاسع عشر حينما عمدت الدول الاستعمارية إلى استغلال الصين عن طريق تجارة الأفيون من أجل الحصول على موطئ قدم يمهد للاستحواذ على ثروات البلاد وتوظيفها لخدمة مصالحها. وضمن هذا الإطار جاءت المساعي الأمريكية لتعزيز مصالحها في منطقة الشرق الأقصى عامة، والصين خاصة وأولتهما اهتماماً كبيراً ولاسيما بعد استكمال قوتها الرأسمالية في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً في عام 1784 بعد وصول السفينة التجارية الأمريكية إلى ميناء كانتون الصيني والتي كانت البدايات الأولى للتغلغل الأمريكي في الصين.

هكذا سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتباع النهج البريطاني وذلك بإرسال الرئيس الأمريكي جون تيلر بعثة بصحبة ثلاث سفن حربية إلى مكاو في عام 1843 للتفاوض مع الصينيين، وأسفرت المفاوضات عن توقيع معاهدة تضمنت (34) بنداً منحت الصين بسببها الولايات المتحدة الأمريكية كل الامتيازات التي منحتها لبريطانيا بموجب معاهدة “نانكين” مع حل الخلافات التي تحصل بين الأمريكيين وغيرهم من الأجانب بوسائل خارج سيطرة القضاء الصيني وتحديد عمر زمني لتعديل المعاهدة مقداره 12 عاماً.

وتعتبر هذه المعاهدة هي الأولى بين الطرفين، وقد نصّت على منح الأمريكيين مختلف الامتيازات والحصانات في الصين. ومنذ تلك اللحظة أصبحت العلاقات الأمريكية الصينية تشكّل نموذجاً خاصاً من العلاقات الدولية يجمع بين الصراع والتعاون الحذر، ومزيجاً فريداً من العلاقات الثنائية المعقدة للغاية أو المتناقضة، ففي 1899 حين كانت الدول الأوروبية -مع سعي اليابان لمضاهاتها- تريد جميعاً إنشاء مستعمرات و”مناطق نفوذ”، كانت الولايات المتحدة في عهد الرئيس وليام مكينلي – بين عامي 1897-1901- تدعو إلى نهج “الباب المفتوح” مع الصين، وكان المطلوب من هذه الأخيرة أن تكون “منفتحة” على الوجود الأجنبي والتجارة. ولكن الباب المفتوح يعني أيضاً المساواة بين جميع القوى الأجنبية في قدرتها على الوصول إلى الصين، وبدون أي نفوذ. لم ترق أميركا أبداً إلى مستوى ادعاءاتها فقد أصاب الرئيس وودرو ويلسون -بين عامي 1913-1921- الوطنيين الصينيين بخيبة أمل كبيرة في مؤتمر “فرساي” عام 1919 عندما أعطت المعاهدة الناتجة عن المؤتمر شبه جزيرة “شاندونغ” المنزوعة من ألمانيا إلى اليابان، بدلاً من إعادتها إلى الصين.

 

لكن إدارة الرئيس هربرت هوفر – 1929-1933- وخليفتها إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت، – 1933-1945-  قدمتا للصين مساعدات غذائية كبيرة جداً خلال المجاعة الكبرى، ودعمت الولايات المتحدة الأمريكية الحكومة الجمهورية في الصين بزعامة شيانغ كاي شيك عندما بسطت سيطرتها من جديد في حملتها ضد أمراء الحرب المحليين والمسماة “المسيرة نحو الشمال” في الفترة ذاتها. ودعمت أميركا الصين الجمهورية ضد اليابان خلال حرب المحيط الهادي، وذلك من خلال إرسال معونات عسكرية ضخمة لمنطقة “الحدبة” (سلسلة جبال الهيمالايا وسيتشوان).

وبعد “سقوط الصين” في عام 1949 وتأسيس جمهورية “الصين الشعبية”، تشكلت مواقف الصين من الولايات المتحدة بمنحى آخر، بحيث أن الجنرال تشانغ كاي شيك كان يمارس الضغط على الولايات المتحدة، فيما كان ماو تسي تونغ والشيوعيون غير معادين لأميركا، كما تعامل كل من تشو إنلاى – أول رئيس وزراء لجمهورية الصين الشعبية، بين عامي (1949-1976)-  والممثلين عن الشيوعيين في تشونغتشينغ في عهد “الجبهة المتحدة” مع الأميركيين.

فقد شهدت العلاقات في تلك الفترة نوعاً من العداء خصوصاً بعد انضمام الصين للمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق، والدور الذي لعبته في الحرب الفيتنامية وكذا دعمها لـ كوريا الديمقراطية، لكن على الرغم من ذلك فقد تعالت مجموعة من الرؤى الداخلية التي دعت إلى ضرورة تغيير السياسة الأمريكية تجاه الصين وذلك من أجل الحفاظ على توازن القوى في آسيا، وهذا التحول هو الذي أدى تصاعد الخلاف الصيني-السوفيتي.

ولكن الحرب الكورية (1950-1953) غيرت من وتيرة العلاقات، وذلك مع تنفيذ سياسة العزل الذاتي الصينية والحملات الشعبية المناهضة للولايات المتحدة في جمهورية الصين الشعبية. هذه السياسة التي يطلق عليها “الستار الخيزراني” أدت إلى عزل الصين التي كانت قد دخلت الحرب الكورية وساعدت الشيوعيين الفيتناميين ضد الولايات المتحدة، ثم جاءت الهدنة الكورية في تشرين الثاني عام 1953، لتجنب البلدين الصراع المباشر.

ومع تفكك التحالف بين الصين والاتحاد السوفييتي بين (1959 -1963) أصبحت العلاقة مثلثة الأضلاع، لكن ظلت الصين في المعسكر المناهض للولايات المتحدة، لكن كانت إدارة نيكسون بحاجة للصين للضغط على فيتنام وإنهاء الحرب في الهند الصينية، وبعد لقاءات سرية، جاء القرار لتحسين العلاقات الأمريكية-الصينية التي تبلورت بزيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى بكين في شباط من العام 1972، والتي شهدت انفراجاً في العلاقات بين الدولتين، ومن ثم إرساء أسس التفاهم بين الصين والولايات المتحدة.

وفي نهاية العام 1979 وخلال فترة إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، توصل الأخير والزعيم الصيني في تلك الفترة دنغ شياو بينغ إلى قرار تاريخي اعترفت الولايات على إثره بجمهورية الصين الشعبية، وعلى إثر ذلك تأسست العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين في كانون الثاني 1979، بحيث أن التقدم الذي تحقق مع الصين كان من أبرز الإنجازات التي حققتها السياسة الخارجية خلال فترة كارتر، هذا الأمر الذي كان سبباً في نمو سريع للعلاقات الثنائية، وقد أدى تسارع الوتيرة في العلاقات إلى قيام الرئيس الصيني شياو بنغ بزيارة تاريخية إلى الولايات المتحدة، وعلى الرغم من هذه الانفراجة في العلاقات إلا أن السياسة الخارجية الصينية ظلت على مسافة ثابتة حيث تبني توجهاتها وفق وقائع موضوعية أو حسب ما تمليه عليها مصالحها.

وابتداءً من 1984 تطورت العلاقات بشكل لافت بحيث أنه تم افتتاح عدد من القنصليات في البلدين وتم تبادل زيارات على مستوي عال مثل زيارة رئيس الوزراء الصيني “شوزيانغ” إلى الولايات المتحدة، بحيث توصل الطرفان من خلالها إلى اتفاق حول مجموعة من الأمور المهمة وبالأخص في منطقة جنوب شرق آسيا، والاتفاق المتعلق بالتعاون الصناعي والعلمي.

ورغم هذا التقارب الكبير بينهما، إلا أن العلاقات الصينية-الأمريكية كانت مليئة بالتناقضات بين التفاهم والصدام المستمر، فعلى سبيل المثال لا الحصر اندلع أول نزاع تجاري بين البلدين في   13 كانون الثاني 1983 عندما قررت الولايات المتحدة فرض عقوبات اقتصادية على الصين و ردت الأخيرة على القرار الأمريكي بإجراءات اقتصادية مماثلة.

تبعت هذه الأزمة أزمات عديدة ومستمرة، بحيث ظلت العلاقات التجارية والاقتصادية متوترة على الرغم من انعقاد التجمع التجاري الصيني-الأمريكي الضخم في حزيران 1988، ومحاولته إيجاد الحلول للمشاكل التجارية العالقة بين البلدين، والبحث عن فرص جديدة في مجال الصناعة والتجارة بينهما.

أما على الصعيد السياسي فقد نشبت عدة أزمات كان لها الأثر في توتر العلاقات أبرزها قضية التبت وتايوان، فإن هذا الموضوع يعد من أبرز الخلافات الثابتة والمتفجرة طوال الفترة ما بين (1979-1989)، فقد شكلت مسألة بيع الأسلحة الأمريكية لتايوان عائقاً في تطوير العلاقات بينهما، وفي هذا الشأن توصلت الحكومتان عبر مفاوضات مضنية إلى اتفاق، ففي بيان أعلنت الحكومة الأمريكية أنها لا تسعى إلى تنفيذ سياسة خاصة ببيع الأسلحة لتايوان على المدى الطويل وأن مبيعاتها من الأسلحة لن تتجاوز نوعاً وكماً المستوى الذي تم تقديمه خلال السنوات الأخيرة منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وأنها مستعدة لخفض مبيعاتها العسكرية لتايوان بصورة تدريجية وصولاً إلى تسوية نهائية بعد فترة من الزمن ومع ذلك قامت الحكومة الأمريكية بانتهاكات متكررة لنص الاتفاق.

 

فيما شكلت سنة 2001 منعطفاً حاسماً وتحولاً سياسياً شاملاً في تاريخ العلاقات، سواءً على مستوي نمط العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وباقي الدول المتوسطة والصغرى التي تتداخل معها في العديد من الملفات، أو على مستوى الجدل حول اختلاف تراتبية الدول في النظام الدولي بعد أحداث أيلول 2001 والحديث عن إمكانية منافسة الصين الولايات المتحدةَ على قمة النظام الدولي في المستقبل، ومن تم إزاحتها القيادة العالمية، فعلى الرغم من أن أحداث أيلول كان لها دور في تقريب الرؤى بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين بخصوص التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، إلا أن الصعود الصيني يشكل إحدى أبرز التحديات المستقبلية للسياسة الخارجية الأمريكية.