الكونغرس يغذي آلة الحرب الأمريكية
عناية ناصر
على الرغم من الخلاف حول بعض التعديلات في مجلس الشيوخ، يستعدّ الكونغرس الأمريكي لتمرير قانون الميزانية العسكرية بقيمة 778 مليار دولار لعام 2022، حيث يعمل أعضاء الكونغرس على تسليم النصيب الأكبر -أكثر من 65 بالمائة- من الإنفاق التقديري الفيدرالي إلى آلة الحرب الأمريكية.
إن سجل الجيش الأمريكي في الفشل المنهجي -هزيمة أفغانستان- يدعو لمراجعة شاملة لدوره المهيمن في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وإعادة تقييم جذري لمكانه في أولويات ميزانية الكونغرس. لذلك فإن الاحتفاظ بآلة الحرب يجعل الأمريكيين أقل أماناً، خاصةً وأن أعضاء الكونغرس يقومون بتسليم الحصة الأكبر من موارد الولايات المتحدة لهذه المؤسسة الفاسدة دون تدقيق ودون خوف من المساءلة عندما يتعلق الأمر بإعادة انتخابهم.
في الواقع إن أكثر ما تواجهه الولايات المتحدة هو أزمة المناخ، والعنصرية المنهجية، وتآكل حقوق التصويت، والعنف المسلح، وعدم المساواة، واختطاف الشركات للسلطة السياسية، وهي لم تواجه على الإطلاق تهديداً بالهجوم عليها أو غزوها من قبل أي دولة أخرى. وعليه تتطلب التحديات الدولية التي تواجهها أمريكا في هذا القرن التزاماً حقيقياً بالتعاون الدولي والدبلوماسية. لكن للأسف، تواصل كل من الإدارتين الديموقراطية والجمهورية شغل المناصب الدبلوماسية العليا بمسؤولين عقائديين ومنغمسين في سياسات الحرب والإكراه، مع خبرة شحيحة ومهارات هزيلة في الدبلوماسية السلمية التي يحتاج إليها بشدة. وبالطبع هذا لا يؤدي إلا إلى إدامة سياسة خارجية فاشلة تستند إلى خيارات خاطئة بين العقوبات الاقتصادية التي قارنها مسؤولو الأمم المتحدة بالحصار في العصور الوسطى، والانقلابات التي تزعزع استقرار البلدان والمناطق، وتترك مدناً مثل الموصل في العراق، والرقة في سورية تحت الأنقاض.
لقد كانت نهاية الحرب الباردة فرصة ذهبية للولايات المتحدة لتقليص قواتها وميزانيتها العسكرية، وحينها توقع الرأي العام الأمريكي وتفاءل في “عوائد السلام”، حتى أن مسؤولين مخضرمين في البنتاغون أخبروا لجنة الميزانية بمجلس الشيوخ في عام 1991 أنه يمكن خفض الإنفاق العسكري بنسبة 50٪، لكن بدلاً من ذلك، شرع المسؤولون الأمريكيون في استغلال “عائد القوة” بعد الحرب الباردة، وهو اختلال كبير في التوازن العسكري لمصلحة الولايات المتحدة، من خلال تطوير مبررات لاستخدام القوة العسكرية بحرية أكبر وعلى نطاق واسع في جميع أنحاء العالم.
قبل رئاسة بيل كلينتون، سألت مادلين أولبرايت، التي كانت ستصبح سفيرة الولايات المتحدة بعدها لدى الأمم المتحدة، الجنرال كولن باول، رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك: “ما الهدف من وجود هذا الجيش الذي تتحدث عنه دائماً إذا لم نتمكن من استخدامه”؟.
في عام 1999، عندما كانت وزيرة للخارجية في عهد الرئيس كلينتون، حققت أولبرايت رغبتها بتجاوز ميثاق الأمم المتحدة بحرب غير شرعية على يوغوسلافيا. وقد شكلت حرب كلينتون وأولبرايت غير الشرعية سابقة لمزيد من الحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق وليبيا وسورية وأماكن أخرى، مع نتائج مدمرة ومروعة بالقدر نفسه، لكن الحروب العسكرية الأمريكية الفاشلة لم تدفع الكونغرس أو الإدارات المتعاقبة إلى إعادة التفكير بجدية في استخدام القوة العسكرية.
يبدو أنه لا يمكن لأي قدر من القتل أو التعذيب أو الدمار الشامل أو الأرواح المدمرة في العالم الحقيقي أن يهزّ الأوهام العسكرية للطبقة السياسية في أمريكا، والتي تديرها مصالح المجمع العسكري الصناعي. وفي الوقت الذي يخسر فيه حرباً تلو أخرى في الخارج، يشنّ الجيش الأمريكي حرباً أكثر نجاحاً في الداخل لتلميع صورته في قلوب وعقول الأمريكيين والفوز بكل معركة الميزانية في واشنطن.
إن تواطؤ الكونغرس، يحوّل المعركة السنوية للميزانية إلى “نزهة”، دون مساءلة عن الحروب الخاسرة، وجرائم الحروب، والمجازر ضد المدنيين، إذ لا يوجد نقاش في الكونغرس حول التأثير الاقتصادي على الولايات المتحدة أو العواقب الجيوسياسية للعالم من الموافقة التلقائية دون تمحيص لاستثمارات ضخمة في أسلحة قوية ستُستخدم عاجلاً أم آجلاً لقتل الناس وتحطيم بلدانهم.
بعد ستين عاماً من خطاب وداع أيزنهاور، تماماً كما توقع، يستمر “ثقل هذا المزيج” من الجنرالات والأدميرالات الفاسدين، و”تجار الموت” الرابحين الذين يبيعون بضائعهم، وأعضاء مجلس الشيوخ والنواب الذين عهدوا إليهم بتريليونات الدولارات من المال العام.
لقد خلص أيزنهاور إلى القول: “فقط المواطنون المتيقظون والمطلعون هم من يمكنهم إيجاد الترابط المناسب بين آلية الدفاع الصناعية والعسكرية الضخمة مع الأساليب والأهداف السلمية”. اليوم تتردّد أصداء هذه الدعوة، وعلى الأمريكيين أن يتوحدوا في كل شكل من أشكال التنظيم الديمقراطي، وبناء حركة تمتد من الانتخابات إلى التعليم والدعوة إلى الاحتجاجات الجماهيرية لوضع حدّ “للتأثير غير المبرر” لمجمع الكونغرس العسكري الصناعي.