بدايات الفن التشكيلي في مدينة حلب
مع مطلع القرن العشرين انطلقت مسيرة الفن التشكيلي في مدينة حلب، وهنا يأتي دور الرواد الأوائل من الفنانين الذين تركوا أثراً واضحاً في الإنتاج الفني وبثّ القيم التشكيلية التي ساهمت في تطوير الفنون في هذه المدينة، ولعلّ أبرز هؤلاء هو الفنان غالب سالم، الذي درس في مدينة روما وتشبع بتاريخ الفن، وعاد إلى مدينة حلب، بعد أن نال شهادة الدبلوم في التصوير من إحدى أكاديمياتها، وتكمن أهميته بـأنه الأستاذ الأول لعدد من الفنانين في حلب. وقد ولد غالب سالم في حلب عام 1910 وتتلمذ على يد الفنان منيب النقشبندي، أستاذ الرسم في التجهيز الأولى، والتي سمع بها لأول مرة بأسماء لم يكن يعرفها، أمثال: مايكل أنجلو ودافنشي، وما إن حصل على الشهادة الثانوية حتى غادر سورية إلى إيطاليا واستقر في روما لدراسة الفنون التي عشقها، وتخرج فيها عام 1936 وعاد إلى سورية ليعمل في التدريس، وحين أنشئت كلية الهندسة عام 1947 أصبح أول مدرس لمادة الرسم فيها، كما درَس في دار المعلمين أيضاً، وأعدّ معرضاً لأعمال الطلاب في عام 1949 ويعتبر المعرض الأول من نوعه في مدينة حلب، ثم عين مفتشاً لمادة التربية الفنية، وألف عدداً من الكتب والكراسات التي تُعنى بالفن وتاريخه، كما شارك في معارض عديدة، ولم يكن يبدي نشاطاً فنياً، فأعماله القليلة تقتصر على بضع لوحات ساهم فيها في هذه المعارض، وتدور حول موضوعات ذات طابع تسجيلي لمشاهد من أحياء المدينة، وقلعتها، وبعض قادة الحركة الوطنية، أمثال إبراهيم هنانو، أحد قادة الثورة السورية، وقد صوّره وهو يمتطي حصانه ويحمل سلاحه ويقارع الاستعمار، وكذلك لوحة الشهداء التي رسمها أثناء الاحتلال الفرنسي لسورية، وتأتي أهميته بأنه المؤسّس الأول لبدايات الحركة الفنية في مدينة حلب، كما أنه عرّف الطلاب بالأساليب والاتجاهات الفنية والتقنيات المعاصرة، وأثر في إبداعات جيل فني احتل الصدارة في الفن السوري، وكذلك ساهم في إدخال فن الحفر إلى سورية وعرَف الفنانين بهذا المجال.
لقد لعب دوراً ريادياً من خلال كتاباته النقدية في الصحف السورية والمجلات العربية، وخاصة المصرية (الرسالة والكاتب)، وقدّم كتابين في التأليف الفني، هما: الموجز في تاريخ الفنون ورسالة في التصوير الضوئي، وقد كرمه تلاميذه الفنانون بمعرض تحية له قبل وفاته عام 1985.
وتبعه في العام التالي وهبي الحريري الذي التحق بأكاديمية الفنون الجميلة فيها، وأمضى خمس سنوات يدرس الفنون ويتعرف على روائع الفن الإيطالي واليوناني، وعاد بعدها ليدرَس مادة الفنون في ثانوية التجهيز الأولى، وفي معهده الخاص، وقد ولد وهبي الحريري عام 1914 وبدأ يمارس الرسم والنحت ولما يبلغ سن الصبا، ويعدّ أحد رواد الفن التشكيلي السوري الأوائل الذين درسوا الفن دراسة أكاديمية، إنه المؤسس الأول لمادة الرسم، فقد أسس مرسماً خاصاً، له ولطلابه، يدرس فيه مادة الرسم والنحت.
سافر إلى باريس، والتحق بمدرسة الفنون الجميلة والهندسة المعمارية، وقاده اهتمامه بالفن الإسلامي إلى السفر إلى السعودية في أوائل الستينيات باحثاً ومنقباً وراسماً، وأصدر خلالها كتاب (التراث المعماري في المملكة العربية السعودية) طبعه ونشره في مدينة فلورنسا في إيطاليا، وتضمن لوحات مرسومة بالقلم الرصاص، وتمثل مختلف أنماط التراث المعماري في المملكة، وفي عام 1987 قام بإصدار كتاب من تصويره، بعنوان: (عسير تاريخ وحضارة) ثم أصدر كتاباً آخر عنوانه: (تراث المملكة العربية السعودية) ويعدّ من أفضل ما نشر عن السعودية من كتب مصورة.
في صيف عام 1994 ودّعت حلب أحد روَاد الحركة التشكيلية المهندس الدكتور وهبي الحريري عن عمر يناهز الثمانين عاماً، بعد أن أمضى شطراً من حياته متنقلاً بين واشنطن والرياض لمتابعة أعماله، وحين عاد إلى سورية مسقط رأسه، ساهم في إنجاز عدة مشاريع، منها: التصميم العام لساحة عدنان المالكي في دمشق، ومشروع الحفاظ على جامع خالد بن الوليد التاريخي في مدينة حمص، ولا ننسى أن الحريري أقام معرضاً للوحاته في متحف ليشونيا في واشنطن، ونظراً لإبداعه وإسهاماته الفنية فقد منح من قبل الحكومة الفرنسية وسام فارس للفنون والآداب.
ويأتينا في هذه المقالة الفنان نوبار صباغ وهو واحد من الفنانين الذين أنجبتهم مدينة حلب، وترك أثراً واضحاً في التشكيل السوري، لقد ولد نوبار عام 1920 في مدينة حلب، واحترف مهنة التصوير الضوئي بالألوان المائية، التي عكف على ممارستها وتطويرها حتى غدا من أشهر مصوري الألوان المائية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وقد أخذ يشارك في معظم المعارض، واستطاع أن يحظى بإعجاب النقاد في أعماله، ونال الجائزة الثالثة عن لوحاته التي تمثل منظراً لمدينة حلب، حيث تتوسط القلعة معالم المدينة، في جوَ ضبابي مفعم بالشاعرية والجمال.
لقد بدأ الفنان برسم المناظر الطبيعية المحيطة بريف حلب وجبال اللاذقية، وعالج صور المساجد والجوامع والمواقع الأثرية في حلب ودمشق من خلال رؤية انطباعية تجلّت في اللمسات اللونية الواضحة والبقع الشفافة المنسابة على أرضية اللوحة بعفوية ورشاقة، ولم تقف طموحات الفنان عند رسم الطبيعة ومناظرها بالألوان المائية، فقد شرع يرسم اللوحات الزيتية، دون أن يتخلى عن تقنيات التصوير المائي، فجاءت لوحته تحمل شفافية المائي وعفويته، من خلال اللمسات الواضحة في اللوحة التي تعكس انفعالات متدفقة، وقد وصف الناقد التشكيلي طارق الشريف لوحات نوبار ، بقوله: “هو رسام اللون أكثر مما هو فنان الخط، إنه الملون الذي يعكس ذاته، وهذه هي الميزة الأساسية التي تعبّر عن نوبار”.
أخذت لوحاته تبتعد عن الواقع وتصويره المباشر منذ عام 1963 الذي أخذ يتلاشى في لوحاته ليفسح المجال أكثر للتعامل التجريدي للألوان، فقد أصبح الموضوع لديه شيئاً هامشياً بالمقارنة مع قضية الجمال الذي تؤكده العلاقات اللونية الجديدة المتألقة على نحو يعكس الانفعالات المباشرة، ولعلّ لوحاته (سوق في حلب) و(النوافذ الزرقاء) و(منظر من بلودان) تمثل محاولات مختلفة للانطلاق من الواقعية ومحاولة لفهم الواقع على أساس الضربات الواثقة من نفسها، والتي تحمل حساسية صاحبها، وترى اللون هو أساس الواقع.
يجب ألا ننسى الفنان ألفريد بخاش، فهو أول من نظم معرضاً للفنون التشكيلية في مدينة حلب عام 1948 مع مجموعة من الفنانين الهواة، وقد ولد الفنان ألفرد في مدينة حلب عام 1922 وكان والده (نديم بخاش) أحد الأسماء المعروفة في رسم الصور الشخصية، وله أعمال على بيوت الأسر الحلبية الغنية. وشملت اهتمامات ألفرد فنون (الرسم والتصوير والنحت والإعلان) وكان موضوع المرأة هو المفضّل لديه، فقد برع في تصويرها بأسلوب شاعري جميل يميل إلى الرومانسية، وأحياناً يتبع إلى الإبداعية.
شارك الفنان في معظم المعارض التي أقيمت في حلب ودمشق، كما أقام عدداً من المعارض الفردية في فرنسا وبيروت، وحين شارك في المعرض الأول الذي نظمته وزارة المعارف السورية بالتعاون مع مديرية الآثار والمتاحف، نال جائزة مالية، وقد وصف الدكتور عادل عبد الحق، مدير الآثار السورية معرضه: ومن أقوى الصور لوحته المسمّاة “ابتسامة” فهي تعطي للمرأة وضعاً خاصاً غير مألوف، وقد جلست بجسمها الرقيق المغطى بثوب أبيض، وتناثر شعرها الأشقر الأشعث بتموجات كثيفة حول رأسها، كأنه الهالة، وكذلك عيناها، فإنهما تنفذان بنظراتهما العميقة إلى ما وراء الأسرار، ويضاف إلى سحرها ابتسامتها اللطيفة التي أراد الرسام أن يجعلها شبيهة بابتسامة الجوكاندا المشهورة.
ولا تقلّ براعة الفنان ألفريد في فن النحت عن براعته في فن التصوير، فقد أنتج مجموعة من الصور النحتية لعدد من الشخصيات، مثل (أبو العلاء المعري وقسطاكي حمصي وسعد الله الجابري) وعكف على إبراز الملامح الجمالية والتعبيرية في الجسد الأنثوي في تمثال الأمومة، وقد شارك الفنان في معظم المعارض التي نظمت في سورية حتى نهاية الخمسينيات، كان أحد الوجوه المتألقة في الحركة التشكيلية السورية التي تسعى دائماً نحو التجديد.
فيصل خرتش