ضحايا منسيون .. تزايد ملحوظ في عدد المرضى النفسيين ومطالبات بزيادة الأطباء والمراكز الصحية!
لم يكن طابوراً أمام فرن أو مركز لتوزيع الغاز أو غيره من الطوابير التي باتت جزءاً من المشاهد اليومية في حياتنا خلال السنوات الأخيرة، بل كان أمام عيادة لطبيب نفسي في منطقة “باب مصلّى” لم تتسع كراسي الانتظار في عيادته للمرضى القادمين من مختلف المحافظات، حسب ما أكدته لنا الممرضات اللواتي يعملن في العيادة واللواتي وصل عددهن إلى 4 ممرضات لا تتسع لهن العيادة خاصّة وأن عدد المرضى تجاوز الـ 15 مريضاً أغلبهم أتى دون مواعيد سابقة. وللحقيقة، فإن عدد المرضى النفسيين تزايد خلال سنوات الأزمة ليتفاقم خلال العامين الأخيرين مع انتشار وباء كورونا، ومع ازدياد الضغوط المادية والنفسية على أغلب شرائح المجتمع. وعلى الرغم من عدم وصولنا إلى إحصائية دقيقة لأعداد هؤلاء المرضى إلّا أن أهل الاختصاص أكدوا تزايد الحالات الذي لا تعكسه أعداد المراجعين للعيادات فحسب، بل وإن تواجد الكثير من الحالات في الطرقات والحدائق دون تلقي أي علاج كان أكبر شاهد على صحة كلامنا، إضافة إلى الحالات الكثيرة التي لا تزال حبيسة نظرات الخوف والخجل من زيارة الأطباء النفسيين وتلقي العلاج!
وصمة مجتمعية
يُجمع أهل الاختصاص بأن الآثار النفسية التي خلّفتها الحرب بدت واضحة جداً على السوريين، وخاصة فئة الأطفال ممن عانوا مرارة التهجير وقسوة فقدان ذويهم خلال الأزمة، وعلى الرغم من سعي وزارة الصحة المستمر وتعاونها مع باقي الوزارات ذات الصلّة لتخفيف تلك الآثار على جميع الفئات العمرية ونجاحها في ذلك في أغلب المطارح، إلّا أن انتشار وباء كورونا في العامين الماضيين أعاد وضع الصحة النفسية إلى الوراء قليلاً، وتؤكد ربى السيد”صيدلانية” مراجعة الكثير من الشباب والشابات للصيدليات بشكل يومي بحثاً عن أدوية اكتئاب أو مهدئات دون استشارة طبية أو مراجعة لأي طبيب في ظل الوصمة المجتمعية التي لا زالت تلاحق المرضى النفسيين في مجتمعنا، وتحدثت السيّد عن ارتفاع نسبة الخاضعين للعلاج النفسي إلى أكثر من 40% خلال الأعوام الأخيرة، لافتة إلى أن فترة علاج الأطفال تكون دوماً أطول من علاج الفئات العمرية الأكبر، فما تعرّض له أغلب الأطفال خلال الأزمة خلق لديهم حالة من فقدان الأمن والثقة بمحيطهم، وهذا ما نلحظه في المدارس التي يشكو القائمون عليها من ازدياد حالات العنف والعدوانية عند أغلب الطلاب المهجرين، وسعي الوزارة بشكل مستمر لدمجهم من جديد وخلق برامج دعم نفسية واجتماعية لعلاج هذه الحالات ومنع تفاقمها مع سنوات العمر.
ليست ترفاً
ولم يخف الدكتور سهل الضامن “طبيب نفسي” ازدياد أعداد المرضى خلال السنوات العشر الماضية ، لتتراوح الأسباب بين مادية ومعنوية كفقدان عزيز أو ممتلكات ومصادر رزق أو تهجير، إضافة إلى الخوف الكبير الذي ترافق مع فيروس”كورونا” وما يخلّفه من آثار نفسية على المصابين وذويهم من الموت أو الإصابة به مرة ثانية، فالآثار النفسية التي يعانيها مرضى الكورونا أكبر بكثير من الأعراض الجسدية، إذ يعيش المريض خلال فترة علاجه من “كورونا” صراعات داخلية نفسية تصل بالكثير إلى الاكتئاب الذي يرافقهم لأشهر طويلة بعد تعافيهم من “كورونا”، وطالب الضامن بضرورة زيارة الأطباء النفسيين أو المراكز الصحية والمشافي المخصصّة لهذه الشريحة، فوجود هذه المراكز ليس ترفاً خاصّة في ظل الوضع الحالي، لافتاً إلى توفر الأدوية النفسية وعدم فقدانها في السوق الدوائي كما يُشاع، كما طالب بتحفيز المرضى لمراجعة العيادات النفسية وكسر حاجز القلق والخوف من ارتياد هذه العيادات، فالطب النفسي كأي طب آخر له مرضاه وأدويته التي تُشفي المرضى وتُبعد مجتمعنا من الوقوع في خسائر بشرية، خاصّة وان تفاقم حالات الاكتئاب تؤدي إلى الانتحار وفقد الأرواح.
لا إحصائيات دقيقة
وفيما يتعلق بازدياد حالات المرض النفسي خلال سنوات الحرب أكد الضامن عدم وجود إحصائية دقيقة لعدد الحالات خاصّة وأنها كانت في حالة ازدياد، ولا ننسى حالات المرض النفسي التي رافقت البعض ممن اتخذوا قرار الهجرة بعد أن فقدوا ثروتهم أو ذويهم ليحملوا كآبتهم وخوفهم معهم إلى الخارج، كذلك لا يمكن أن نصنّف جميع الحالات بالخطيرة لا سيّما وأنّ هناك فئة استطاعت المقاومة ولم تتأثر نفسياً بالأحداث وتجاوزتها، وفئة تأثرت وظهرت عليها أعراض نفسية كالاكتئاب واضطرابات وقلق وصولاً إلى “الاضطراب ثنائي القطب” الذي يفقد صاحبه صلته بالواقع ويدفعه إلى العزوف عن الاتصالات الاجتماعية ما قد يؤدي به إلى الفصام، إضافة إلى الفئة الناضجة والتي حوّلت الكآبة والصدمات النفسية إلى نجاح وتميّز وهي بلا شك فئة قليلة لكنها موجودة واستطاعت الخروج من الأزمات النفسية منتصرة والبدء من جديد بنجاح، وعلى الرغم من الجهود التي أكدتها وزارة الصحة للتخفيف من الاضطرابات النفسية والبرامج التوعوية وتدريب كوادرها للتصدّي للكثير من الحالات، إلّا أن حالات المرضى النفسيين الذين نلحظهم في الطرقات دون أي معيل يجوبون الحارات وهم يتحدثون لأنفسهم باتت مخيفة، خاصّة وأن البعض منهم يقومون بضرب المارّة أو اللحاق بهم وشتمهم دون سبب، ما أثار التساؤلات عن غياب وزارة الصحّة عن هذه الحالات كغياب وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل عن حال المتسولين الذين يتكاثرون يوماً بعد يوم، الأمر الذي يتطلب حلولاً سريعة من جهة إيوائهم ومعالجتهم.
الأرقام تتحدث
تؤكد الدكتورة أمل شكو مديرة الصحة النفسية أن عدد المراجعين للعيادات النفسية وعيادات رأب الفجوة خلال عام ٢٠٢٠ هو ١١٠٣٦٠ ، في حين وصل عدد مراجعي العيادات النفسية وعيادات رأب الفجوة خلال عام ٢٠٢١ حتى نهاية الربع الثالث هو ١٠٠٨٧١، أما عدد المراجعين اللذين تلقوا خدمات الدعم النفسي الاجتماعي في المراكز الصحية والمشافي النفسية خلال عام ٢٠٢٠ فهو ٨٦١٠٥ ، في حين وصل عدد المراجعين اللذين تلقوا خدمات الدعم النفسي الاجتماعي في المراكز الصحية والمشافي النفسية خلال عام ٢٠٢١ وحتى نهاية الربع الثالث إلى ٩٣٣٩٥، ولفتت شكو إلى وجود الكثير من المشافي الاختصاصية بالطب النفسي في سورية والمتضمنة الهيئة العامة لمستشفى ابن سينا – الهيئة العامة لمستشفى ابن خلدون – مشفى ابن رشد للامراض النفسية التابع لمديرية صحة دمشق)، إضافة إلى العيادات النفسية المتخصصة الموجودة في حمص وحماه وحلب، أما عدد المراكز الصحية التي تحتوي أطباء رأب فجوة فوصل إلى حوالي الـ ٥٠٠ مركز صحي، وقدمت شكو لمحة عن برنامج رأب الفجوة والذي انطلق عام ٢٠١٣ حيث تقوم مديرية الصحة النفسية في وزارة الصحة بتدريب الأطباء غير المختصين بالطب النفسي والعاملين في المراكز الصحية والمشافي العامة على تدبير بعض الاضطرابات النفسية وتحويل الحالات التي لا يستطيعون تدبيرها للأطباء المختصين بالطب النفسي وذلك بهدف دمج الصحة النفسية ضمن الرعاية الصحية الأولية، مشيرة إلى توفر الدواء الخاص بالمرضى النفسيين حيث بلغ عدد المستفيدين دوائيا خلال عام ٢٠٢٠ ما يقارب ٤٧٤٣٠ من أصل ١١٠٣٦٠، في حين بلغ عدد المستفيدين دوائيا خلال عام ٢٠٢١ حتى نهاية الريع الثالث ما يقارب ٣٩٠٧٩ من أصل ١٠٠٨٧١.
اعمار الإنسان
لا شكّ أن غريزة البقاء هي الأهم عند الإنسان، وما تعرّض له السوريون من حرب وحرائق للغابات وأوبئة وضغوط مادية هددت هذا البقاء وأضفت الكثير من الخلل في السلوك اليومي للأفراد، وخاصة عند شريحة الشباب، الأمر الذي يتطلب تضافر الجهود بين جميع الجهات ذات الشأن وأولها الإعلام من لجهة التوعية والإرشاد بأهمية تقديم الدعم النفسي والاجتماعي أو العلاج النفسي الدوائي في حال كانت حالة المريض شديدة، إضافة إلى ضرورة زيارة المراكز والعيادات النفسية التي لم تُنشأ بغرض الاستعراض بل لاحتواء هذه الشريحة وإعادة اعمارها ودمجها في المجتمع من جديد لأنّنا بإهمالها وتركها فترة من الوقت دون علاج سنصل حتماً إلى وباء نفسي يجتاح مجتمعاً بأكمله.
ميس بركات