القلب ينبض بسورية
يُحكى أنه في سنوات الاغتراب والدراسة، أي قبل 15 عشر عاماً، عندما كانت باتريسيا في فرنسا بقصد الحصول على الماجستير والدكتوراه، نصحها زملاء الدراسة أن تقدّم طلباً للدولة الفرنسية كي تحصل على الجنسية الفرنسية، وبذلك تكون أمورها أسهل في إخراج ورقة الإقامة التي يطلبونها منها في كل عام.
فكرت كثيراً قبل أن تقوم بذلك، فهي لم تستهويها فرنسا كبلد للعيش فيها طيلة حياتها، ولاسيما أنها موجودة فيها لفترة ليست بالطويلة وستعود بعدها إلى وطنها، ترفده بمعلوماتها وتدرس في جامعته التي أوفدتها لنيل هذه المرتبة العلمية.
مرّ شهر وأكثر وانتهت صلاحية إقامتها في فرنسا وكان عليها أن تذهب إلى قسم الهجرة والجوازات كي تقدم طلباً تستطيع بموجبه أن تجدّد إقامتها كطالبة موفدة، وهناك شاهدت إحدى صديقاتها التي كانت تقف في رتل طويل، مخصّص للأجانب وهم ينتظرون دورهم كي يصار إلى تمديد إقامتهم وغير ذلك.
قالت لها صديقتها نيفين: لقد نال مني التعب ياصديقتي فمنذ الفجر وأنا أنتظر دوري.
فقالت لها: وأنا مثلك، أكاد أسقط على الأرض من شدة التعب، خاصة وأنني لا أستطيع أن أبرح مكاني خوفاً من خسارته ومجيء شخص آخر ليقف فيه.
أردفت نيفين قائلةً: لكن لماذا يتعاملون معنا بهذا الوجوم والكره؟.
قالت باتريسيا: لا أدري، ربما بسبب أعداد الأجانب الضخمة، وهذا ما يسبّب لهم إرهاقاً.
قالت نيفين: لكننا في بلدنا نستقبلهم بكل رحابة صدر ونحاول قدر الإمكان أن نتكلم معهم بلغتهم الفرنسية كي يفهمونا.
قالت باتريسيا: لا أدري ياعزيزتي، فأنا في كل عام أحضر إلى هنا وأعاني هذه المعاناة، في حين باقي زملائي الموفدين يضعون ملفاتهم في مركز يُسمّى الكروس وهو مركز خاص بالموفدين ضمن اتفاقيات بين فرنسا وبلدانهم، وهو يتكفل بكل ذلك.
قالت نيفين: لأنهم ربما ضمن باريس العاصمة وليسوا مثلي ومثلك نسكن في ضواحي باريس.
تابعت باتريسيا قائلة: لقد جاء دوري، الحمد لله.
وفي المساء رنّ هاتف باتريسيا وعرفت بأن المتصلة هي صديقتها نفسها التي كانت تنتظر معها في مركز أنطوني، للحصول على تمديد الإقامة.
قالت نيفين: لقد سمعت اقتراحاً من أحد الموفدين الموجودين هنا منذ سنوات، وقد قال لي يجب عليّ أن أحصل على الجنسية الفرنسية وبذلك لن أكون بحاجة لتجديد الإقامة في كل عام؟.
قالت باتريسيا مستغربة: الجنسية الفرنسية؟.
قالت نيفين: نعم وبذلك سأصبح فرنسية ويكون معي جواز سفر فرنسي وأسافر إلى سورية وأعود إلى فرنسا دون تأشيرة أو فيزا. مارأيك بهذه الفكرة؟.
تردّدت باتريسيا كثيراً قبل أن تجيبها ثم قالت: لا أدري.
قالت نيفين: لا تتردّدي، هيا جهزي أوراقك ولنذهب منذ الصباح إلى قسم الجنسيات ولنقدم طلباً.
انتهت المكالمة بينهما، وهنا بدأت الأسئلة تدور في رأس باتريسيا التي لم تستطع النوم طيلة الليل وهي تفكر.
في الصباح رنّ هاتف باتريسيا من جديد وأتاها صوت نيفين متحمساً ومعاتباً: أين أنت ولماذا لم تأتِ؟.
قالت باتريسيا: أشعر بالتعب.
قالت نيفين: لقد قدّمت طلباً إلى قسم الجنسية وسوف يأتيني الردّ بعد أشهر قليلة وأنت؟..
قالت باتريسيا: لكن ماذا سأقول لهم إن سألوني لماذا أطلب الجنسية الفرنسية؟.
قالت نيفين: قولي لهم ماتريدين.
قالت باتريسيا: مثل ماذا؟.
قالت نيفين: لا تعقّدي الأمور، فأنت متحدثة بارعة، وتجيدين اللغة الفرنسية، وهذه إحدى الشروط حتى يقبلون طلبك؟.
قالت باتريسيا: سأفكر.
مرّ أسبوع وباتريسيا تفكر ثم قرّرت الذهاب بعد إلحاح صديقتها عليها إلى قسم الجنسية في أنطوني “أنطوني هي بمثابة ناحية تتبع إليها إدارياً من حيث سكنها في كلامار الموجودة في جزيرة فرنسا كما يسمونها”.
لم يكن عليها أن تقف في الطابور نفسه، وإنما يمكنها الذهاب مباشرة إلى القسم وتقديم الملف.
ألقت التحية الفرنسية على الموظفة التي ترتدي لباس الشرطة وكانت كالرجال من حيث تسريحة شعرها القصير وشموخها وخشونة صوتها.
قالت لها الشرطية: أنت سورية، أليس كذلك؟.
أجابت: نعم.
قالت: أنت طالبة موفدة منذ أكثر من أربع سنوات وحاصلة على الماجستير.
أجابت: نعم.
قالت: تقولين في طلبك بأنك تريدين الحصول على الجنسية الفرنسية؟.
أجابت: نعم.
قالت فخورة: يجب عليك ذكر الأسباب التي جعلت تفكرين بأن تكوني فرنسية.
لم يدم هذا الفخر كثيراً على وجهها عندما سمعت إجابة باتريسيا.
قالت: أيتها السيدة، أنا في الحقيقة أعاني من الوقوف في الطابور في سفارتكم في بلدي الغالي سورية عندما أريد الحصول على فيزا، وأعاني أكثر هنا في بلدكم عند تجديد إقامتي. لذلك أريد أن أوفر على نفسي مشقة الانتظار، ليس إلا.
احمر وجهها وقالت: يعني ألا تريدين أن تحصلي على جواز سفر فرنسي ولا تريدين أن تنتخبي النواب والرئيس هنا كما يفعل المواطنون الفرنسيون؟.
قالت باتريسيا ببساطة: طبعاً لا، وماذا يعني لي جواز سفر فرنسي ومعي جواز سفر سوري. ولماذا أنتخب نوابكم ورئيسكم وأنا أنتخب نوابي ورئيسي في بلدي؟.
فجأة شعرت باتريسيا بأن صاروخاً من الأوراق قد طار من فوق رأسها وتناثر على الأرض.
قالت لها الشرطية: اخرجي من هنا ولا تعودي، فمن يريد أن يكون فرنسياً يجب أن ينسى جنسيته الأصلية ويفتخر بالجنسية الفرنسية.
لا أدري وقتها كيف اختلطت مشاعرها، فقد كانت مزيجاً من الفخر بنفسها من هذا التصرف العفوي ومزيجاً من الانتقام من هذه العنجهية الصلفة وفرحاً عارماً برفض طلبها خلال دقائق وليس أشهراً.
في المساء اتصلت بصديقتها وقالت لها بأنها ستحاول إنجار أطروحة الدكتوراه في أقصر فترة ممكنة كي تعود إلى بلدها وتتمتّع بجنسيتها السورية. ولا تريد أن تستبدل جواز سفرها بأي جواز آخر.
وبعدها نامت قريرة العين كطفل لم ينم منذ أسبوع.
وهاهي باتريسيا اليوم تدرّس في جامعة بلدها الغالي وتضحك كلما تذكرت وجه الشرطية الفرنسية ذات الشعر القصير.
د. منيرة خضرة