الحالة السورية وفق المنهج المقارن – الجانب النقدي – (1)
د. مهدي دخل الله
ليس في هذه العجالة أي محاولة لتبرير أوضاعنا الاقتصادية والمعيشية السيئة ، والتركيز هنا هدفه القياس بين ما حصل عندنا وما حصل في دول أخرى عانت مما نعاني منه ، بل أقل مما نعاني منه إذا أخذنا بالاعتبار ضخامة الحرب غير المسبوقة على سورية .
والقياس يستند بالتأكيد إلى المنهج المقارن الذي لا نجيد استخدامه في سورية ، حيث غالباً ما نقيّم الأمور على معيار المطلق أو المدينة الفاضلة أو كأننا نعيش في المريخ ..
واحتراماً لصبر القارئ ووقته ، سأركز هنا فقط على سعر صرف العملة الوطنية ، لأن هذا واحد من المؤشرات المركزية للأوضاع الاقتصادية ، ولن أتطرق للمؤشرات الأخرى ..
بالنسبة للتجارب العالمية ، مرجعي الذي استخدمته هو كتاب الاقتصادي الأمريكي الشهير جون غالبرايت ” تاريخ الفكر الاقتصادي _ الماضي صورة الحاضر ” . والكاتب من أهم منظري الرأسمالية الاقتصادية ، ولا يمكن اتهامه بالتجني في تحليله من منطلقات معادية للغرب ..
أما بالنسبة لتجاربنا في الشام والرافدين فالموضوع راهن حالياً ويمكن التأكد من المعلومات التي سأوردها لمن أراد ، علماً أن هذا الموضوع سيكون مادة العدد القادم بسبب ضيق المجال .
يكتب غالبرايت حول ” شخصية النقود المستقلة ” عارضاً ما يحصل بالنقد الوطني أثناء الحروب . يقول أنه أيام حرب التحرير الأمريكية ضد الإنكليز ، اخترعت أمريكا عملة ورقية لا قيمة لها اسمها (كونتيننتال ) ، وكان الناس يضطرون لحمل الأموال في أكياس ثمناً لبضاعة بسيطة . أثناء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب طبعت إدارة الرئيس أبراهام لنكولن نقوداً ورقية قليلة القيمة أيضاً اسمها (غرين باك ) لدرجة أن الناس في أمريكا حتى اليوم عندما يريدون احتقار دولارهم يقولون شعبياً : إنه مجرد غرين باك !..
لا أريد أن أعرض التجربة الإنكليزية مع حروبها في الهند وأفريقيا والحربين العالميتين ، حيث ألغت لندن ، منذ عام 1930 ، تحويل الأسترليني إلى ذهب بسبب انهيار سعر هذه العملة الورقية . بل أن حرب الفوكلاند ( مالفيناس ) ، التي امتدت 74 يوماً فقط ، عام 1982 ، أدت إلى تراجع كبير في سعر صرف الأسترليني . وقد كنت بين مجموعة من الطلاب عندها في لندن ، حيث أكد لنا الاقتصادي ريتشارد ستون ، وهو المستشار الأول لرئيسة الحكومة ، آنذاك ، مارغريت تاتشر ، أن التضخم الهائل في بريطانيا سببه حرب الفوكلاند ( تذكروا 74 يوماً فقط في البحار البعيدة قرب الأرجنتين ) .
أما التجربة الأمريكية فهي الأوضح في هذا المجال . اضطر الرئيس نيكسون إلغاء تعهدات أمريكا لصندوق النقد الدولي ، وقام بإلغاء السعر الثابت للذهب مقدراً بالدولار من طرف واحد . تعويم الدولار جاء نتيجة لحرب فيتنام ، وكاد الدولار أن ينهار لولا استفادة الولايات المتحدة من البترودولار الناتج عن ارتفاع سعر النفط أيام حرب تشرين 1973 .