تآزر الشرق الأوسط وبكين لا يستطيع الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة تحييده
البعث الاسبوعية- سمر سامي السمارة
تطورت العلاقات متعددة الأبعاد والتي تتناول عشرات المجالات، مثل الطاقة، والبنية التحتية والتعاون الاقتصادي والمالي والتكنولوجيا المتقدمة بين الصين والشرق الأوسط، لدرجة أن جهود واشنطن المستمرة لزعزعة هذه العلاقات لم تجد آذاناً صاغية في معظم دول الشرق الأوسط حتى مع شركائها التقليديين خاصة في الآونة الأخيرة. كما مكنت مشاكل واشنطن مع دول الشرق الأوسط الأخرى على وجه العموم، ومع دول الخليج التي أدركت أنّ بايدن لديه سياسة جديدة مختلفة عن سلفه ترامب، وربما يذهب إلى رفع الحماية التي وفّرها له ترامب، وانسحابه من أفغانستان، والذي يشير إلى تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة خصوصاً مع تراجع حاجتها إلى نفط الخليج، جميعها مكنت الصين من التوسع بعلاقاتها إلى ما بعد التعاون الاقتصادي والتجارة والاستثمار.
يرى محللون غربيون إن، أحد الأسباب الرئيسية لإلغاء دولة الإمارات صفقة الطائرات المقاتلة من طراز F-35 مع الولايات المتحدة مرتبط برفض الأخيرة تكنولوجيا الاتصالات من الجيل الخامس 5G الصينية، لكن البصمة الاقتصادية والتكنولوجية المتنامية للصين في الشرق الأوسط تمثل بُعد واحد من أبعاد علاقات بكين مع المنطقة.
علاقة الصين بالشرق الأوسط
تتميز العلاقة بين بكين والشرق الأوسط باعتماد كلا الطرفين المتبادل على بعضها البعض، وهو الأمر الذي تفتقر إليه دائماً علاقات الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، يعني اعتماد الصين المتزايد على الشرق الأوسط لتغطية احتياجاتها من النفط والغاز، أن طموح الولايات المتحدة لإجبار الصين على الخروج من المنطقة يتعارض مع حاجة دول الشرق الأوسط لبيع النفط والغاز لأكبر مستهلك في العالم.
وتُعدّ منطقة الشرق الأوسط الغنية بمصادر الطاقة منطقة حساسة بالنسبة للصين، إذ تعتبر مسألة الطاقة والنفط من الأمور الإستراتيجية التي تسعى الصين إلى الحصول عليها من خلال الشرق الأوسط سعياً منها لاستكمال وتحقيق عملية التحديث الداخلي لها، خاصة بعد أن أصبحت ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة، حيث قدرت وارداتها النفطية عام 2004 بنحو 1,3 مليار طن نصفها من الشرق الأوسط، فيما بذلت جهوداً كبيرة لتنويع وارداتها النفطية.
واليوم، بعد أن تجاوزت الصين، الولايات المتحدة في عام 2017 كأكبر مستورد ومستهلك للنفط والغاز في العالم، تغيرت علاقاتها مع أكبر منتج للنفط والغاز في العالم بشكل جذري، خاصة وأنّ احتياطات بكين من النفط لن تدوم أكثر من 20 عاماً إذا استمر الإنتاج بمعدله الحالي حسب التقديرات، ومن هنا ليس أمام الصين إلا أحد خيارين إذا أرادت حل معضلة الطاقة، إما بالتوسع في استخدام الفحم مع أضراره المدمرة للبيئة، أو الاتجاه نحو تدعيم علاقاتها بدول الشرق الأوسط والحصول على نصيب من إنتاجها الذي يبلغ نصف الإنتاج العالمي وثلثي احتياطه، ما يعني أن أساليب الضغط الأمريكية على دول مثل الإمارات المتحدة لا يمكن أن تكون مجدية بالطرق التقليدية التي تريد من خلالها واشنطن أن تصدم بكين.
بالإضافة إلى ضخامة حجم التجارة غير النفطية بين بكين والإمارات المتحدة، فإن الأخيرة أيضاً من بين موردي النفط العشرة لبكين، ففي عام 2021، لبت الإمارات المتحدة أكثر من 5.5 في المائة من احتياجات الصين النفطية السنوية، وبلغت فاتورة واردات الصين من الإمارات نحو 10 مليارات دولار. لكن السعودية برزت كأكبر مورد للنفط للصين في عام 2021، إذ تزود الصين بنحو 16 في المائة من النفط، أي بقيمة 28.1 مليار دولاراً أمريكياً، لذا فمن غير المستغرب أن نرى علاقات بكين المتنامية مع السعودية.
وبحسب ما أكده مسؤولون سعوديون مؤخراً، طلبت المملكة المساعدة من بكين لبناء قدرتها على الصواريخ الباليستية. ووفقاً لتقرير نشرته مؤخراً صحيفة “وول ستريت جورنال”، فإن المسعى السعودي يأتي على خلفية الرفض الأمريكي المستمر لبيع الصواريخ الباليستية، ويأتي التعاون المقبل على خلفية التعاون العسكري المتزايد بين الصين والسعودية.
مبادرة “الحزام والطريق”
إلى جانب التعاون العسكري، تتطلع بلدان الشرق الأوسط على نحو متزايد إلى بكين في مجال التجارة والاستثمارات والاستشارات الدبلوماسية وحتى التعاون الأمني، ويساعد على ذلك الصورة التي رسمتها الصين لنفسها كقوة محايدة هدفها تنميّة مجتمعها وإقامة علاقات متكافئة مبنية على الاحترام والمنفعة المتبادلة وعدم التدخل في شؤون الآخرين. وتُعدّ مبادرة “الحزام والطريق”، أهم رافعة للمصالح الخارجية الصينية ومدار كثير من سياساتها الخارجية، وواحدة من أهم الخطط التنموية والاستراتيجية في تاريخ البشرية، وأكثرها كلفة وتعقيداً، حيث تضخ استثمارات الصين من خلال المبادرة أموالاً كافية في الشرق الأوسط لتلبية مطالبها المتزايدة للتحديث الاقتصادي. كما تُظهر بعض البيانات الحديثة، استثمرت الصين أكثر من 123 مليار دولار أمريكي في الشرق الأوسط بين عامي 2013 و 2019. ولا يقتصر دور الصين المباشر في الشرق الأوسط على تعزيز اقتصادها فحسب، بل في المشروعات التي تبنيها أو تحرص على بنائها لتكمل مشروع طرق الحرير. على سبيل المثال، تقوم الصين ببناء موانئ في جميع أنحاء الشرق الأوسط ليس لتسهيل تجارتها عبر خطوط الاتصال البحرية فحسب، بل أنها تسمح أيضاً لهذه الدول الغنية بالنفط لتنويع اقتصادها بما يتجاوز الاعتماد الوحيد على تصدير النفط والغاز.
جدير بالذكر، في الآونة الأخيرة وقعت مجموعة موانئ أبوظبي اتفاقية مع مجموعة ميناء “شاندونغ” الصينية بحضور الكابتن محمد جمعة الشامسي، العضو المنتدب والرئيس التنفيذي – لمجموعة موانئ أبوظبي، ولي فينغل، المدير العام لمجموعة ميناء شاندونغ، لتأسيس مركز تخزين وتوزيع للإطارات في كيزاد وهو الأول من نوعه في المنطقة.
يقول العضو المنتدب لمجموعة موانئ أبوظبي: “تبرز الإمارات المتحدة كميسر رئيسي للتجارة العالمية ووجهة صناعية سريعة التطور قادرة على تأدية دور رئيسي ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية، ويسرنا أن نشهد هذا الاهتمام المتنامي من الشركات الصينية للاستثمار في إمارة أبوظبي”.
الموثوقية الصينية
وبالتالي، سيكون هناك تآزر مباشر بين الشرق الأوسط وبكين، وقد أصبح على مستوى لا يستطيع الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة تحييده. إلى جانب ذلك، نظراً لأن الولايات المتحدة في خضم سحب قواتها العسكرية وأصولها من الشرق الأوسط للتركيز أكثر على جنوب شرق آسيا و منطقة المحيطين الهندي والهادئ من أجل “محاربة الصين بالقرب من حدودها”، أصبح الأمر أسهل بالنسبة لدول الشرق الأوسط أن تختار، الصين على واشنطن، ويكشف إلغاء الإمارات المتحدة لصفقة الطائرات المقاتلة F-35 – التي جاءت بعد أن أجرى القادة الإماراتيون تحليلاً شاملاً للمردودية ” الكلفة مقابل العائد” التوجه لهذا الاتجاه.
إذ تتضمن هذه التكلفة والعائد أيضاً ما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة لدول مثل الإمارات المتحدة والسعودية، اللتان تركزان بشكل متزايد على إعادة توجيه نفسها كدول “حديثة” جزئياً. في هذا الصدد، بينما كانت الولايات المتحدة حتى الآن تعتمد على الضغط لثني هذه الدول عن التعمق في التعامل مع بكين، فإن هذه الاستراتيجية لم تعد ناجحة على وجه التحديد لأن الولايات المتحدة لم تكن قادرة على تقديم خطة بديلة كما أشار بعض المحللين الغربيين.
في الوقت نفسه، فقدت الرواية الأمريكية المناهضة للصين، والتي تشدد على المخاطر الأمنية المرتبطة بالحصول على تكنولوجيا الصين للجيل الخامس، أهميتها ومصداقيتها في ضوء الاكتشافات الأخيرة حول كيفية قيام شركات التكنولوجيا التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها مثل “فيسبوك” وكذلك وكالات الأمن القومي، مثل “ناسا” تستخدم التكنولوجيا للتجسس على الناس في جميع أنحاء العالم.
بعبارة أخرى، لا يمكن للولايات المتحدة أن تقدم نفسها على أنها أكثر مصداقية وموثوقية من الصين، وهي نقطة ضعف تأتي على رأس عجز الولايات المتحدة عن تقديم استخدام بديل يكون أرخص لتكنولوجيا الجيل الخامس الصينية.
لذلك، في غياب البديل الأمريكي، يرى المحللون، من خلال استقراء المواقف الصينية والشرق أوسطية، إن فهم التحوّلات الجارية بعلاقة الصين مع المنطقة، واستشراف الدور الصيني المقبل فيها، وكيفية تعاطي الدول العربية مع مستقبل يمكن أن ينحسر فيه النفوذ الأمريكي في المنطقة العربية، وينمو فيه النفوذ الصيني في الشرق الأوسط في القرن المقبل.
من الواضح، أن الجذور الصينية في الشرق الأوسط، ستستمر في التوسع مع تقلص جذور الولايات المتحدة من الناحيتين العسكرية والاقتصادية. وهذا منطقي بقدر ما هو حتمي، بالنظر إلى حقيقة أن الشرق الأوسط لديه الآن خيارات أكثر مما كان عليه في القرن الماضي عندما لم تكن الصين لاعباً أساسياً على الساحة الدولية.