قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان بين الصين والولايات المتحدة واشنطن تتستر بالشعارات لتعتدي على بكين وتقوض وحدتها الوطنية وتجانسها العرقي
البعث الأسبوعية- اعداد قسم الدراسات
على النقيض من النظام العالمي القديم الذي اتسم بأن العدد الأكبر من دوله هي دول عسكرية لا تعطي التقدير اللازم لحقوق الإنسان وحرياته، يعد النظام العالمي الجديد أكثر اهتماماً بقضية حقوق الإنسان والحريات المدنية والسياسية، استناداً إلى الأسس الديمقراطية والليبرالية. وفي هذا السياق يعتبر ملف حقوق الإنسان في الصين من ضمن أبرز الملفات الذي يتعرض للانتقادات الأمريكية والغربية، على الرغم من أن المجتمع الصيني أصبح أكثر تعددية في ظل دور أكبر للمنظمات غير الحكومية في توفير الخدمات الاجتماعية، وانتشار أكبر لحركات المعارضة الاجتماعية مع زيادة وعي المواطنين، حتى باتت مسألة حقوق الإنسان في دول شرق آسيا جزءاً أساسياً تم النص عليه في دساتير هذه الدول من خلال ألوان عدة من الحقوق في المجالات المدنية والفكرية، كما اتسم الأمر في كثير من الأحيان بقدر كبير من التسامح من الأفراد انطلاقاً من قناعتهم بأولوية الجماعة والدولة على الفرد الذي يضحي من أجل استقرار الدولة.
ورغم ذلك، ينتقد الغرب أوضاع حقوق الإنسان في آسيا، ويدعو إلى ضرورة التزامها بالمعايير العالمية لحقوق الإنسان، بينما تتهم دول آسيا الغرب أنه يستخدم مفهوم حقوق الإنسان كأداة من أجل التدخل في شؤونها الداخلية بصرف النظر عن اختلاف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدول النامية، حيث تدافع آسيا عن الخصوصية القيمية في مواجهة دعاوى عالمية حقوق الإنسان.
حقوق الإنسان في السياسة الخارجية الأمريكية
تجدر الإشارة إلى بدايات ظهور قضية حقوق الإنسان في السياسة الخارجية الأمريكية، حيث لم يصبح تعزيز حقوق الإنسان جزءاً من أهداف السياسة الخارجية الأمريكية إلا في عقد السبعينيات من القرن الماضي.
وانطلاقاً من هذا الأمر، تعد قضية حقوق الإنسان من القضايا الشائكة في إطار العلاقات الصينية الأمريكية والتي ترتبط بالأساس بانتقاد الولايات المتحدة المستمر لملف حقوق الإنسان في الصين، ورؤية الولايات المتحدة الخاصة بأن رخاء الصين الاقتصادي يحتاج إلى تدعيم من الحريات السياسية والفكرية.
فيما تعتبر الصين أن قضية حقوق الإنسان تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية ورقة للضغط، بقصد إرغامها – في بعض الأحيان – على الاستجابة وإجراء التحديث في سجل حقوق الإنسان، والأخذ بالقيم والمفاهيم الغربية الرأسمالية وفقاً للمنظور الأمريكي، وبما يخدم مصالحها القومية العليا.
ترى الصين أن حقوق الإنسان شأن داخلي، والمطالبات الأمريكية في هذا الصدد مبعثها التدخل في الاختصاصات الداخلية للصين، فلكل دولة أن تنظم علاقاتها برعاياها وفق ما ترى، وعلى سبيل المثال بعد أحداث الميدان السماوي “تيان أن مين” التي شهدتها العاصمة الصينية بكين في 1989،هاجمت الحكومة الصينية الاهتمام الأمريكي بحقوق الإنسان في الصين على أساس أنه تدخل غير شرعي في الشؤون الداخلية الصينية، واعتبار ذلك جزءاً من استراتيجية أمريكية لتحويل الصين من الاشتراكية للرأسمالية، واعتبرت الصين ذلك تطاولاً على سيادتها و لا يحق للولايات المتحدة الأمريكية التدخل في شؤونها الداخلية وخرق سيادتها، وأن كل دولة لها الحرية في تنظيم علاقاتها برعاياها وفقاً لطبيعة نظامها السياسي، وأن قضية حقوق الإنسان في الصين ليس بالضرورة أن تلتقي مع المفهوم الأمريكي، إذ أن للصين ثقافتها وتاريخها الحضاري الذي يحتم عليها صياغة شؤونها الداخلية وفقاً لتصوراتها ورؤيتها الخاصة بها بدون التدخل في شؤونها، إذ يقول الرئيس الصيني جيانغ زيمين 1993-2003: “إن كل دولة في العالم تستطيع التقدم في مجال حقوق الإنسان وفق طريقتها وظروفها الخاصة”.
وتعتبر الصين أن الولايات المتحدة الأمريكية دأبت على استخدام قضية حقوق الإنسان وإثارتها بين الحين والآخر، بل وربطت قضايا الديمقراطية و حقوق الإنسان بمدى الامتيازات الاقتصادية التي تنالها من الصين.
بالمقابل ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن الصين تختار ما ترغب فيه من القوانين الدولية وتخترق القوانين التي لا تريد تنفيذها كلما سمحت لها الفرصة. فيما ترى الصين أن من أولوياتها الكبرى هي النمو الاقتصادي، وعازمة على أن لا تدع شيئاً يلهيها عن هدفها المنشود، فضلاً عن أن الصين في عملية انطلاقها الاقتصادي تركز على تحقيق الريادة الاقتصادية.
فمثلا، عندما يواجه قادة الصين بأسئلة حول حقوق الإنسان، فإن إجاباتهم تكون شديدة البراغماتية. فبحسب الحكومة الصينية، فإنه يجب تعريف حقوق الإنسان بحيث لا يشمل فقط الحقوق السلبية ضد إساءة المعاملة، لكن يجب أن تشمل – أيضاً- الحقوق الإيجابية المرتبطة بالرخاء الاقتصادي. يقولون: “إن طريق الصين عبر قيادة الحزب، وطريق التنمية الاقتصادية هو ضرورة من أجل خلق الظروف التي يمكن بها ضمان حقوق الإنسان من صحة ورخاء”.
وبالفعل عملت الصين على أن تشمل حقوق الإنسان حق الحياة الكريمة الرغدة، وهو حق لا يمكن تحقيقه في الدولة إلا عن طريق تحقيق التنمية الاقتصادية، وبالتالي لا يجب على مناصري حقوق الإنسان في الغرب أن يفترضوا أن هذه الأطروحة التدريجية هي على سبيل النفاق، فالعديد من نخب الحزب الشيوعي تؤمن فعلاً بأن نظام الحكومة الذي يطورونه براغماتياً ويوفر أفضل حل ممكن من أجل تحسين حياة المواطنين في الصين.
في ظل إدارتي ريغان وبوش الأب بلغت العلاقات بين الصين والولايات المتحدة ذروتها من التأزم. ولطالما مارست الولايات المتحدة الأمريكية على الصين الضغط بخصوص سجل حقوق الإنسان واضطهاد الأقليات، ونلاحظ أن هنالك عشرات المظاهرات في مختلف أرجاء العالم يتم قمعها بالقوة ويذهب ضحيتها العشرات بل المئات دون أن يتحرك المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ساكناً إزاء تلك الأعمال القمعية، كالمظاهرات التي حدثت في مصر إبان الانقلاب العسكري، ومجزرة رابعة، و”النهضة” وما تبعها من اعتقالات تعسفية وملاحقة المدنيين والتعذيب الذي يطال المعتقلين بالسجون تحت غطاء محاربة الإرهاب.
أما في ظل رئاسة بيل كلينتون فقد أكدت على ضرورة الربط بين حقوق الإنسان والعلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، و من جانب آخر عبر الرئيس الصيني جيانغ زيمين قائلاً: “إن هناك قوى كبرى معينة كثيراً ما تتستر وراء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لتعتدي على سيادة دول أخرى والتدخل في شؤونها الداخلية ولتقوض وحدتها الوطنية وتجانسها العرقي”.
وفي عام 2005 دعا الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش القيادة الصينية خلال زيارته للصين بالسماح بالمزيد من الحريات السياسية والاجتماعية والدينية للصينيين، لكن ازداد التوتر وتبادل الاتهامات في عام 2006 بين البلدين عندما أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريراً يدين سجل حقوق الإنسان في الصين، وينتقد النظام السياسي لهونغ كونغ، والقيود المفروضة على حرية الصحافة.
وقد ردت الصين بأن الولايات المتحدة الأمريكية تتبع معايير مزدوجة بشأن قضية حقوق الإنسان، مؤكدةً بأنها قضية يمكن حلها بالحوار وليس المواجهة وعلى أسس المساواة، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف الظروف وتباينها بين كل دولة وأخرى، وبعيداً عن التسييس واستخدامها كمبرر للتدخل في الشؤون الداخلية للصين، و أن لا تستخدم شعار حقوق الإنسان محاولة منها التحرش بالدول التي تنتهج سياسة مستقلة كالصين.
ومع إدارة أوباما تجاوز سيد البيت الأبيض مسألة قضية حقوق الإنسان والديمقراطية لما ينطوي عليه من احتمالات الصدام وأن تقليصاً أو تقييداً في التعامل الاقتصادي “العقوبات الاقتصادية” لن يخدم مصالحها البعيدة المدى بل يستدعي ضرورة الفصل بين القضيتين، وفك الارتباط بين شرط تحسين سجل حقوق الإنسان في الصين وبين العلاقات التجارية بين الدولتين رغم عدم حصول تحسن في سجل حقوق الإنسان في الصين وفق المفهوم الغربي لتلك الحقوق، واعتبر أوباما أن الشركات والمصالح الأمريكية هي الخاسر الأكبر من قطع العلاقات مع الصين أو تقييدها.
ومما ساعد على تجسير التفاهم بين إدارة أوباما وبكين تبني الإدارة الأمريكية الجديدة نهجاً مغايراً فيما يخص الموقف من قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات حول العالم، إذ أعلن أوباما وطاقمه رفض إدارتهم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو ممارسة الضغوط على الأنظمة الحاكمة فيها لحملها على تحسين سجلاتها في قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات. و أن هذه القضايا لم تكن حائلاً يعوق التقارب والتفاهم المشترك بينهما وبين أي نظام سياسي آخر في أية دولة، وأن إدارته لم ترهن أي تقدم في علاقاتها مع الصين بسجلاتها الحقوقية أو في كيفية التعاطي مع تلك القضايا، وكانت الأولوية للمصالح المشتركة، على ألا تتوقف واشنطن عن دعوتها إياهم بشكل ودي إلى اتخاذ خطوات إيجابية وعملية في هذا الخصوص.
وتأتي تصريحات أوباما في هذا المضمار متناغمة مع مواقفه وتوجهاته التي سبق أن أعلنها قبل أن يغدو الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة، فلم يكن الرجل ميالاً باتجاه التدخل لفرض الديمقراطية من خلال التدخل العسكري أو ممارسة الضغوط على دول حول العالم، وفي أثناء حملته الانتخابية الرئاسية أثنى أوباما على برنت سكوكروفت رغم أنه جمهوري وعمل مستشاراً للأمن القومي خلال رئاستي ريغان وبوش الأب، ولم يخف أوباما إعجابه الشديد بواقعيته وعدم إيمانه بفكرة فرض الديمقراطية في الخارج بالقوة.
أما عن إدارة ترامب فقد تميزت بانحدار حاد في جهود الحكومة لحماية وتعزيز حقوق الإنسان، حيث تبنّت الإدارة الأمريكية تغييرات في السياسات أضرّت باللاجئين والمهاجرين، أدت إلى تقويض مساءلة الشرطة عن الإساءات وتدهور حقوق المرأة، والحصول على الخدمات الصحية الهامة حسب ما جاء في التقرير العالمي 2018 لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”.
وختمت إدارة ترامب السنة الأولى لها بانسحاب من منظمة الأمم المتحدة احتجاجاً على ما أسمته “التحيز المزمن ضد إسرائيل”، وانتقدت هيلي السفيرة الأمريكية بالمنظمة الدولية، روسيا والصين وكوبا لعرقلتها الجهود الأمريكية الرامية لإصلاح المجلس “المنافق والأناني”، وسط رفض واستياء شديد من قبل الإتحاد الأوروبي، وبريطانيا، والصين وغيرها من الدول المكونة لمجلس الأمم المتحدة التي اعتبرت هذا الانسحاب تقويضاً لدور واشنطن الداعم للديمقراطية وحقوق الإنسان على الساحة العالمية. فيما نشر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الأمير زيد بن رعد الحسين تغريدة قال فيها: “بالنظر إلى حالة حقوق الإنسان في عالم اليوم، كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تعزز (جهودها)، ولا تنسى”.
يبدو أن هذا الانسحاب لم يكن وليد اللحظة، وإنما كان انعكاساً لسياسة ترامبية التي طالما عبر عنها في تغريدات له على توتير أثناء حملته الانتخابية، والآن جاء الوقت المناسب لتطبيقها.
خاتمة
إن حقوق الإنسان التي تمثلها منظمة الأمم المتحدة يجب ألا يُنظر إليها إلا من زاوية فعالية المنظمة التاي تقتضى ضرورة تكثيف الجهود بالتعاون والتنسيق بين الدول والمنظمات الدولية، والعمل على إيجاد الرابط بين الحقوق والاقتصاد.
وهذا الترابط الاقتصادي يمكنه أن يفيد في المساعدة على إدارة صراع سياسي حقيقي ذي قيمة بالنسبة لحقوق الإنسان، لأنه كما هو معلوم، فإن القانون الدولي مازال بمقدوره أن يعمل، ويتم إنقاذه بدون الحاجة إلى سلطة عليا، مادامت المصالح الاقتصادية للمشاركين الرئيسيين تقودهم إلى البقاء داخل المنظومة، حتى وهم يخسرون القضايا، ويضطرون إلى دفع تعويضات. ويمكن لهذا أن يحدث حتى عندما يكون لاعبان بحجم الولايات المتحدة والصين موجودين معاً في ساحة منافسة القوى العالمية. والقانون الدولي النافذ يمكنه أن يتعايش مع الصراع الرئيسي بين القوى العظمى، ليفتح إمكانية توسعة المجالات التي يعمل فيها القانون. وهنا يشير مثال حقوق الإنسان إلى أنه ليس من الضروري أن تقودنا ظروف “الحرب الهادئة” إلى اليأس، بل على النقيض، هناك مساحة للتحسن حتى في عالم خطر، معقد كالذي نعيش فيه الآن.
وكاستنتاج عام يجب الخروج به أن السياسة الخارجية الأمريكية والصينية تتغير وتتطور تبعاً لتطور الأحداث والأوضاع الإقليمية والدولية، ويبقى هدف السياسة الخارجية الأمريكية الحفاظ على مكانتها على قمة النظام الدولي، أما هدف السياسة الخارجية الصينية فتسعى إلى بروزها كقوة كبرى على الصعيد الدولي، ولهذا السبب لا تترك واشنطن مناسبة إلا وتهاجم فيها بكين ليس حباً بحقوق الإنسان، وإنما بدافع منع الصين التقدم باتجاه قمة النظام الدولي ومنافستها على ما كانت تستحوذ عليه بعد الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة.