كازاخستان .. أزمة جيواستراتيجية مرتبطة بالانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
تشهدت كازاخستان اضطرابات عنيفة اندلعت اثناء خروج احتجاجات على خلفية رفع أسعار الوقود في البلاد، ولكن بحسب السلطات، اخترق عدد كبير من المرتزقة الأجانب الاحتجاجات وأطلقوا النار على رجال الشرطة، ما دفع الرئيس قاسم توكاييف، الى اصدار أوامر للجيش للسيطرة على الموقف، واستبعد أي مفاوضات مع “قطاع الطرق المسلحين”. ومن ثم طلبت الحكومة مساعدة كلاً من روسيا وبيلاروسيا، في إطار منظمة الأمن الجماعي، التي تضم كل من روسيا، وأرمينيا، وروسيا البيضاء، وكازاخستان، وقيرغستان، وطاجكستان، التي أرسلت قوات حفظ النظام التابعة للمنظمة الى البلاد للقيام بمهمتها.
ووفقاً لوزارة الدفاع الروسية، فإن قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي تؤدي بالفعل مهمتها المتمثلة في حماية المؤسسات الحكومية والمنشئات الحيوية المهمة، بما في ذلك مهابط الطائرات والبنية التحتية الاجتماعية، حيث تقوم مجموعة مكونة من 70 طائرة من طراز Il-76 و An-124 بنقل القوات إلى قازاقستان على مدار الساعة، وأرسلت القوات الجوية الروسية فرقة حفظ سلام من قيرغيزستان مصحوبة بآليات عسكرية.
كما أعلنت السلطات الصينية عن استعدادها أيضاً لمساعدة كازاخستان في الحفاظ على القانون والنظام. ووفقاً لوزارة الخارجية الصينية، فإن بكين مستعدة “لمواصلة التعاون الوثيق” مع كازاخستان من أجل “الحفاظ على السلام بشكل مشترك في المناطق الحدودية”.
حقيقة، يربط محللون ما يجري في كازاخستان برد فعل غربي في قلب أوراسيا على التقدم الدبلوماسي الصيني في أمريكا اللاتينية، ولا يستبعدون احتمال استخدام المظاهرات لخلق حالة من الفوضى وزعزعة استقرار البلاد، وهو احتمال لا يستهان به مع وجود الشبكة الكثيفة للمنظمات الغربية، ودور لـ “الطابور الخامس” من الأوليغارشية الموالية للغرب والاهتمام المتزايد لبعض وكالات الأنباء بما يجري في هذه الساعات، ربما حتى من خلال استغلال التوترات المحتملة بين المجتمعات العرقية المختلفة التي يتألف منها سكان كازاخستان.
ولفهم ما يجري في كازاخستان، من الضروري التطرق الى عدة عوامل وفي مقدمتها أنه لا يمكن تجنب الإشارة إلى أن روسيا والصين طورتا خلال العقد الماضي، استراتيجيات قادرة على موازنة القوة الدافعة للمحاولات الغربية لتنفيذ ما تسمى “تغييرات النظام الغذائي”. وأبرز الحالات في هذا الصدد هي إحتواء الاحتجاجات في هونغ كونغ، فيما يتعلق بالصين، والرد الروسي على الانقلاب الأطلسي في أوكرانيا، والأزمة الأخيرة بين بولندا وبيلاروسيا، حيث شهد العالم مرة أخرى استخدام سلاح غربي نموذجي تمثل بتدفق المهاجرين عبر حلفاء مفترضون ساعدوا في خلق موجات الهجرة هذه بفضل مشاركتها النشطة في حروب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، حيث كانت بولندا جزءاً من “تحالف الراغبين” الشهير الذي هاجم العراق في عام 2003 إلى جانب بريطانيا، وأستراليا والولايات المتحدة.
كما من الضروري الأخذ في الحسبان أن الاختراق الغربي “خاصة أمريكا الشمالية” إلى آسيا الوسطى قديم، ويكفي في هذه الحالة تذكر الصيغة C5 + 1 “الجمهوريات السوفيتية السابقة بالإضافة إلى الولايات المتحدة”، التي بدأت في عهد إدارة أوباما وعززت في ظل رئاسة ترامب. كان الهدف من هذه الصيغة – ولا يزال- تعزيز الاختراق الأمريكي في المنطقة، لا سيما على صعيد “القوة الناعمة” وأجهزة المخابرات، بهدف مواجهة وعرقلة المشروع الصيني لطريق الحرير الجديد. في هذا الصدد، لم تتوقف واشنطن يوماً عن الحلم بفك المحور الاستراتيجي بين موسكو وبكين، ويبدو أن كازخستان تخدم هذا الهدف حيث يزداد فيها الوجود الأمريكي الشمالي.
اختراق أمريكا لكازاخستان
تتمتع كازاخستان بعلاقات دبلوماسية وتجارية قوية مع الولايات المتحدة منذ استقلالها، حيث كانت واشنطن أول من افتتح مكتباً تمثيلياً دبلوماسياً في جمهورية الاتحاد السوفيتي السابق بعد الاستقلال، وكان نور سلطان نزارباييف أول رئيس لدولة في آسيا الوسطى يزور الولايات المتحدة. وحينها سعت كازاخستان إلى تنفيذ استراتيجية توازن جوهري بين القوى الأوروبية الآسيوية المجاورة “روسيا والصين”، والقوة العالمية المهيمنة “الولايات المتحدة”. ولكن إذا كانت محاولة التوازن الجيوسياسي هذه قد أثمرت في العقدين الأولين من عمر الجمهورية، فهذا ليس هو الحال منذ اللحظة التي كانت فيها المنافسة بين الغرب وأوراسيا تسوء أكثر فأكثر. وبالتالي، تصبح مثل هذه الاستراتيجية، في سياق دولي حيث أصبحت الأزمة الدائمة حالة طبيعية، وإشكالية بشكل خاص. وبذلك، فإن خطر الانغماس في آليات حرب باردة جديدة يتزايد أكثر من أي وقت مضى.
في المقابل تعتبر كازاخستان أحد الحلفاء الرئيسيين لروسيا والصين، وهي راسخة بقوة في “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”، و”منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، ويمكن القول إن هاتين المؤسستين ستكونان بلا معنى بدون كازاخستان. في الوقت نفسه، فهي جزء لا يتجزأ من “منظمة شنغهاي” للتعاون وتلعب دوراً مركزياً في مشروع ربط طريق الحرير الجديد الأوراسي الصيني.
وفي الوقت ذاته، عملت البلاد على تطوير علاقاتها الوثيقة مع واشنطن، وفي الوقت الذي فقدت فيه العديد من دول آسيا الوسطى الاهتمام بالولايات المتحدة، مفضلة تركيا لأسباب التقارب الثقافي، ظلت كازاخستان مرتبطة بالولايات المتحدة، وعلاقتها بواشنطن، على عكس جيرانها المباشرين، لم تكن مرتبطة بأي حال من الأحوال بالوجود الأمريكي في أفغانستان، حيث لا تزال الشركات الأمريكية تدير جزءاً كبيراً من إنتاج النفط في كازاخستان، والذي يمثل 44 ٪ من عائدات الدولة. وبشكل أكثر تحديداً، يتم استخراج 30٪ من نفط كازاخستان من قبل شركات أمريكية ، مقابل 17٪ من قبل الشركات الصينية ،و3٪ من قبل شركة “لوكوال” الروسية.
في عام 2020، بلغت التجارة بين الولايات المتحدة وكازاخستان ما يقرب من 2 مليار دولار، وهذا رقم منخفض نوعاً ما مقارنة بـ 21.4 مليار دولار في التجارة مع الصين التي فتحت سوقها المحلي الضخم أمام المنتجات الزراعية الكازاخستانية، و19 مليار دولار في روسيا. ومع ذلك، فإن التجارة مع الولايات المتحدة التي تبلغ 2 مليار دولار هي أكبر بثلاث مرات تقريباً من إجمالي التجارة البالغ 600 مليون مع دول آسيا الوسطى الأخرى.
من جهة أخرى، كازاخستان هي أحد أكبر منتجي اليورانيوم في العالم، حيث تنتج ما يقرب من 40% من الإنتاج العالمي، لذلك يمكن ان يكون لتوتر الأوضاع فيها تأثير كبير على الصناعة النووية، وعلى أسعار النفط والغاز في العالم. ومن هنا اعتبر مراقبون أن الأزمة الحالية في كازاخستان خطيرة بما يكفي لإطلاق خطة طوارئ روسية سرية لها بالفعل تأثير مباشر على أسعار اليورانيوم، حيث انخفضت أسهم شركة “كازاتومبروم”، أكبر مشغل وطني، بنسبة 11٪ في بورصة لندن. وفي الوقت عينه قفزت أسعار اليورانيوم بنسبة 8٪ في الأسواق الدولية حيث تعد المفوضية الأوروبية مشروعاً لمنح العلامة الخضراء للصناعة النووية.
كما تعد كازاخستان من بين أكبر مصدري النفط والغاز بالإضافة إلى كونها منتجاً رئيسياً لليورانيوم. وقد أدى قرار الحكومة الكازاخستانية برفع الدعم عن سعر الغاز الطبيعي المسال كجزء من رفع بعض الإعانات إلى أزمة جيواستراتيجية كبرى، لها صلة بالتأكيد بالانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة وحلفائها من أفغانستان بعد محنة استمرت ما يقرب من عقدين من الزمان، ما أدى إلى إضعاف الجناح الجنوبي لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) وخاصة طاجيكستان. لكن يبدو أن الهدف المختار هذه المرة هو كازاخستان، ويبدو أن الحرب الهجينة المعارضة القائمة على الفوضى الإبداعية قد ضربت النقطة الأكثر استراتيجية، وهذا ما يفسر رد الفعل الروسي الذي كان حاسماً بقوة.
وبالتالي، ما لم يدركه القادة السياسيون في العديد من دول الاتحاد السوفييتي السابق (والكتلة الاشتراكية السابقة) هو أن محاولة تكوين صداقات مع الغرب ليست في حد ذاتها ضماناً للبقاء السياسي. أوكرانيا، على سبيل المثال، دولة فاشلة يسعى الناتو إلى استغلالها كساحة قتال، في حين تدين بولندا بـ “ثروتها الجيدة” لموقعها الجغرافي بين روسيا وألمانيا، عدا عن الحالات التي لا حصر لها والتي كانت الولايات المتحدة تضرب فيها حلفاءها السابقين وأدواتها الجيوسياسية السابقة بعد الانتهاء من القيام بمهمتها. وفي هذا السياق، سيكون دور روسيا والصين مرة أخرى منع الفوضى، وبالتالي منع زعزعة استقرار كازاخستان ومنعها من التأثير على عملية ربط أوراسيا.