كازاخستان .. مجرد حلم أحمق لم يتحقق
بسام هاشم
من الواضح أن الأحداث الدراماتيكية التي اندلعت في كازاخستان، وبلغت ذروتها في قرار منظمة معاهدة الأمن الجماعي نشر قواتها هناك، فقط بعد ثلاثة أيام، فاجأت واشنطن تماماً. كانت إدارة بايدن في مزاج مفعم بالانتصار حيث نصبت كميناً للكرملين في أوكرانيا، وهي على الأقل لم تتوقع انتشاراً روسياً، بمثل هذه السرعة، وفي مثل هذا المنعطف الحاسم في تاريخ بلد بالكاد شرع استثماراته للغرب ودخل دوامة الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية.
كان القلق، المفعم بالحيرة والإحباط، واضحاً وجلياً على ألسنة مختلف المسؤولين الأمريكيين، وكان مفهوماً ومتوقعاً، فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وعلى امتداد ثلاثين عاماً متواصلة، أظهرت كازاخستان توجهات خطيرة من الانجذاب نحو الفلك الغربي، وذلك بفضل هرطقات وتكيفات النخبة الطفيلية في أعلى هياكل السلطة؛ وكان هذا الاختراق يتعمق مع مرور الزمن، ولا سيما عندما بدأت قبضة الرئيس السابق نورسلطان نزارباييف تضعف في الإمساك بالسلطة، وكانت البطانة الحاكمة المحيطة بالرجل العجوز تتصرف بمقدرات البلاد تماماً كما كان يلتسين يتصرف بمقدرات روسيا المستقلة حديثاً. وحقيقة الأمر، فإن أصدقاء نزارباييف كانوا يمسكون بزمام السلطة، وأن النخب الطفيلية تفضل الاحتفاظ بنهبها في ملاذات آمنة وحسابات خاصة في المصارف الغربية، الأمر الذي جعل منها حثالات عميلة متعاونة خضعت لابتزار الاستخبارات الأمريكية مع أول أزمة. لكن سرعان ما تكشفت كل هذه الهشاشة خلال أقل من أسبوع، ولم يكون حتى لدى نزارباييف نفسه ما يكفي من النفوذ والتأثير لإنقاذ النخبة التي تفانت في خدمة المصالح الأمريكية. وهناك شيء تماماً أيضاً، وهو أنه كان هناك الكثير من عملاء وكالة المخابرات المركزية.. في أعلى هرم السلطة الأمنية والتنفيذية، حيث لم يتم إعفاء أو عزل قائد قوات الدفاع الوطني، ورئيس الوزراء السابق، فحسب، بل تم القبض على الأول بتهمة الارتباط بأجهزة أجنبية والخيانة!
كانت كازاخستان عضواً في الشراكة الأطلسية من أجل السلام منذ عام 1994؛ والدولة الوحيدة في آسيا الوسطى التي أوفدت قوات عسكرية لخوض الحرب في أفغانستان تحت راية الناتو، وقد تم الإعداد بكثافة لضمها كعضو محتمل إلى الحلف، مثل أوكرانيا وجورجيا. وفي مرحلة ما، أشرف البنتاغون هناك على بناء واستثمار أحدث المخابر والمنشآت الحيوية والبيولولوجية لتطوير الأسلحة الجرثومية، تحت ستار عدم ترك العلماء السوفييت السابقين “في الشوارع” تتلقفهم “الأنظمة المارقة”. وبالتوازي، عملت واشنطن على بناء جيوب نفوذ، لا سيما بين الشباب والقوميين الكازاخ، وأججت التوترات الكامنة بين السكان الكازاخ والروس، ودعمت الشوفينية العرقية والهجمات على العرقية الروسية. وبالتوازي، انكب الدبلوماسيون الأمريكيون بكل جدية على خلق تصورات سلبية بشأن الصين وسط الرأي العام، ولن يكون من المفاجئ أن يرى المحافظون الجدد في واشنطن في الاضطرابات فرصة لاستخدام كازاخستان كقاعدة لتقويض سلطة الصين في إقليم شينغيانغ – حتى لو كان ذلك من خلال تجديد التحالف مع المجموعات الإسلامية التكفيرية المتطرفة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
ومنذ اندلاع الاضطرابات، قادت واشنطن حرب معلومات غربية صورت من خلالها عملية حفظ السلام المحدودة التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي باعتبارها ذريعة لغزو روسي جديد، ومحاولة لإحياء الاتحاد السوفييتي السابق، وقتل الديموقراطية الكازاخستانية الناشئة، وإطلاق النار على المتظاهرين السلميين العزل، وأخذت، من ثم، تروج لمستنقع آخر يشبه المستنقع الأفغاني، متهمة روسيا بزعزعة الاستقرار في آسيا الوسطى، ومحاولة صرف الانتباه عن الأزمة مع أوكرانيا. في وقت لاحق، حاولت دق إسفين في الشراكة الاستراتيجية الروسية الصينية، من خلال الحديث عن منافسة محتدمة، وأخيراً نشرت أن مهمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي تثبت أن موسكو عدو عالمي لجميع الديمقراطيات! والواقع، فإن إغراء الولايات المتحدة للانخراط في دعم الاضطرابات في كازاخستان ينبع من رغبة مزدوجة في إثارة المشاكل لروسيا والصين معاً، ذلك أن جزءاً مهماً من شبكة الحزام والطريق الصينية يستهدف المرور عبر كازاخستان، وقد استثمرت الصين بكثافة في البنية التحتية لكازاخستان وأنشأت منطقة تجارة حرة ومركز نقل على الحدود معها.
اليوم، وبعد يومين على انتهاء الاضطرابات، وبعيداً عما انتهت إليه تطورات الأوضاع، تبقى أزمة كازاخستان مجرد حلم أحمق لم يتحقق. لقد تمخض فشل آخر نسخة من الثورات الملونة عن نكسة صاعقة للاستراتيجية الأمريكية، وأفضل ما يمكن لواشنطن أن تفعله، بعد الآن، هو الاعتراف بأن تجنيد الرعاع وقطاع الطرق والمخربين والسفاحين لن يكون مفتاحاً سحرياً لتغيير الأنظمة وتثبيت عملاء موالين للغرب في السلطة!!