مفاوضات الـ (2022) إنقاذٌ للاستقرار الاستراتيجيّ العالميّ أم تأزيمٌ للمعضلة الأمنية؟
الدكتور سومر منير صالح
لعقودٍ خلت ارتبط مفهوم الاستقرار الاستراتيجيّ بالردع النوويّ، وعقيدة التدمير المتبادل، وأصبح مرادفاً لمصطلح توازن القوى، ولكنّ المفهوم اتخذ بُعداً مغايراً مع الهيمنة الأمريكية على النسق الدوليّ بعد حقبة الحرب الباردة، وبالتالي أصبح مرادفاً لمفهوم استقرار الأمركة كنظامٍ سياسيٍّ للعولمة الدولية، ولكنّ عودة المحاولات التعديلية للنسق الدوليّ، وبروز اتجاهاتٍ معاصرةٍ لرؤىً دوليةً للتعددية القطبية، ترافقت مع تراجع الهيمنة الأميركية وبروز مراكز قوى صاعدة، ساهم في تصدع الاستقرار الاستراتيجيّ مفاهمياً وموضوعياً، فمن جهة لم يعد الردع النوويّ كافياً للاستقرار الاستراتيجيّ سيما مع الانتشار النووي الأفقيّ الحاصل دولياً، ومن جهةٍ أخرى، ظهرت عوامل أخرى ساهمت في مدى كفاية الردع النووي للتهديد الاستراتيجيّ، فظهرت التهديدات غير النووية وعلى رأسها الأسلحة الفرط صوتية، وعسكرة الفضاء، إضافةً إلى الأنشطة السيبرانية المهددة للطرف للآخر، فأصبح مفهوم الاستقرار الاستراتيجيّ مغايراً للمفهوم الذي اكتسبه في حقبة الحرب الباردة.
راهناً، الاستقرار الاستراتيجيّ العالمي مرتبطٌ ببيئةٍ معقدة التركيب دولياً، غير متوفرة، بحكم التضاد الحاصل في رؤى القوى العظمى للنظام الدولي، فبينما تسعى الولايات المتحدة نحو تجديد الأحادية القطبية المتآكلة، تصر روسيا، ومن خلفها الصين، على عدم عودة الزمن للوراء، وأنّ مسألة التعددية باتت أمراً واقعاً، إضافةً لبروز فكرة التعددية القطبية الإقليمية؛ ورغم ذلك، فقد اتجهت أزمة الاستقرار الاستراتيجيّ العالميّ نحو (استقرار الأزمة المؤقت)، من خلال الاتفاق الأميركيّ الروسيّ لتمديد اتفاقية معاهدة ستارت 3، حتى العام 2026، ولكنّ هذا الاستقرار المؤقت يحمل بحكم طبيعته عوامل انفجاره، وهو أمرٌ يهدد الأزمات الإقليمية بالانفجار باعتبارها تفاصيل حاسمةً قد تحول دون انفجار الأزمة الكبرى، ومن المرشح أن تلعب الأزمة الأوكرانية حال اتساع دائرة النار في الشرق الأوكراني، عامل انهيار هذا الاستقرار الاستراتيجيّ، وبذات الوقت من المرجح أيضاً أن تكون منعكسات الاستقطاب الحاصل راهناً بما فيه الأزمة الأوكرانية عاملاً ضاغطاً على مستقبل الحرب على سورية.
وعلى الرغم من ذهاب الإدارة الأميركية الراهنة إلى تمديد اتفاقية ستارت 3 بشأن الحدّ من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية لمدة خمس سنوات حتى (شباط 2026)، إلّاأنّ مفهومها للاستقرار الاستراتيجي مازال يحمل بصمات الحرب الباردة من جهةٍ، ونتائجها من جهةٍ أخرى، من خلال التأكيد على التكافؤ في الترسانة الصاروخية النووية مع روسيا، وقيادة النظام الدولي والحفاظ عليه مستقرّاً مضموناً من قبل تحالفاتٍ ديمقراطيةٍ قويةٍ وشراكاتٍ ومؤسساتٍ متعددة الأطراف – دليل الأمن القوميّ المؤقت -، وانطلاقاً من ذلك يحدد الدليل المؤقت خطواتٍ فعليةٍ تتلخص بالآتي: ضمان بقاء القوات المسلحة الأمريكية في أفضل حالاتها، قوةً مدرّبةً ومجهزةً في العالم لمواجهة التحديات الاستراتيجية وخاصةً ضدّ الصين وروسيا، وتحديث منظمة حلف شمال الأطلسيّ وتعزيز التحالفات مع أستراليا واليابان وجمهورية كوريا، كذلك الأمر منع الانتشار النووي، مع ضمان بقاء الولايات المتحدة القوة العسكرية الأولى في العالم، إضافةً إلى ذلك محاولة ضمّ الصين إلى الولايات المتحدة وروسيا في محادثات بشأن التوصل إلى اتفاقٍ جديدٍ للحدّ من انتشار الأسلحة النووية بديلاً عن معاهدة “ستارت الجديدة” الموقعة بين موسكو وواشنطن.
وإذا كانت الرؤية الأميركية للاستقرار الاستراتيجيّ تحمل بصمات حقبة الحرب الباردة وما تلاها من أحاديةٍ منفردة، فإنّ الرؤية الروسية الراهنة للاستقرار الاستراتيجيّ تنطلق من راهنية الحال في العلاقات الدولية، وتجاوز حقبة الأحادية المنفردة، وبالتالي الرؤية الروسية للاستقرار الاستراتيجيّ تقتضي “أنْ لا يكون هذا المصطلح مرادفًا للنظام العالميّ، أو توازن القوى، أو مفاهيم شاملة أخرى على غرار التوازن الاستراتيجيّ الإجماليّ للنظام السياسيّ العالمي”، هذه الرؤية هيّ تعبيرٌ استراتيجيٌّ عن المخاوف الروسية بشأن الاستقرار الاستراتيجيّالتي تتمثل بعدم وجود تعريفٍ شاملٍ وواضحٍ للاستقرار الاستراتيجي، ورفض روسيا أنْ يكون هذا الاستقرار مرادفًا للنظام العالميّ ومفهوم القوة والقطبية، وميلها إلى تعريفه بمقتضى مصالحها، مما يجعل الأمريكيين يرفضون قبول المفهوم الروسيّ للاستقرار الاستراتيجي، كذلك الأمر عدم ثقة روسيا بنوايا أمريكا وتعاطيها مع مفهوم الاستقرار الاستراتيجي، وسعيها إلى رسمهِ وفق رؤيتها بضمان مصالحها، إضافةً إلى نظرة القادة الروس إلى أمن المعلومات باعتباره أساسًا للاستقرار الاستراتيجي، فمن دون السيطرة على مجال المعلومات، يخشى الاستراتيجيون الروس من أنّهم لن يحقّقوا الاستقرار في الداخل أو في جوارهم، حيث إنّ رغبة روسيا بتضمين مجال المعلومات كعاملٍ رئيسٍ في الاستقرار الاستراتيجي وسّع إلى حدّ كبير نطاق القضية إلى ما أبعد من الحدود النوويّة، مما عقّد التوافق الروسيّ الأمريكيّ حول الاستقرار الاستراتيجيّ فيما يخصّ الديموقراطية وحريّة المعلومات، وإذا كانت هذه المخاوف تحمل الطابع النظريّ شكلاً فإنّ سياسات واشنطن في جوار روسيا جعلت هذه المخاوف تحدياتٍ واقعةٍ بات على الاستراتيجيين الروس التعامل معها واقعاً، انطلاقاً من تنامي النفوذ الأمريكيّ في منطقتَي البلقان والبلطيق وما يمثله من تهديد للأمن الروسيّ إضافةً إلى التدخل الغربي في بيلاروسيا (2020) الذي يعدّ هاجساً آخر يعمّق الجرح الاستراتيجي الروسيّ في البلطيق، الذي تضاعف مع رغبة واشنطن ضمّ أوكرانيا إلى حلف الناتو سيما بعد قرار الناتو منح أوكرانيا وضع “شريك معزز الفرص” في حزيران 2020، دون إغفال إعلان قمة بوخارست في عام 2008 ، والذي وعد أوكرانيا وجورجيا بأنهما “ستصبحان عضوين في الناتو”، لتجد روسيا نفسها أمام سيناريو قوس أزمات يمتد من البلطيق إلى أسيا الوسطى ماراً بالشرق الأوسط يحاصر تطلعاتها الدولية، ويجعل من الناتو تهديداً وجودياً لنظام روسيا السياسيّ إن لم يكن تهديداً لوحدتها الوطنية…، وفي خضم هذا الوضع الدوليّ المنهار في استقراره الاستراتيجي أعلنت موسكو وواشنطن عن استعدادهما لبدء مفاوضاتٍ بشأن الضمانات الأمنية في أوائل العام 2022، ومن المتوقع أن تكون المسودة التي سلّمتها وزارةالخارجية الروسية إلى الجانب الأميركي في 15 كانون الأول الجاري الخاصة بالضمانات الأمنية، واتفاقية خاصة بإجراءات ضمان أمن روسيا والدول الأعضاء لحلف الناتو هي محور المفاوضات، ورغم أهمية ما طرحه الجانب الروسي إلّا أنه من الواضح تماماً لن يكون محل رضا وقبولٍ أميركيّ فمسألة موافقة الولايات المتحدة علىاتفاقٍ قانونيٍّ ملزمٍ بعدم نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى خارج حدودها، وتعهدها بعدم نشر أسلحةٍ نوويةٍ خارج حدودها، وسحب ما سبق أن نُشر من هذه الأسلحة في الخارج، مع إزالة كافة البنى التحتية الخاصة بنشر أسلحة نووية خارج حدودهما، هيّ مسألةٌ شبه مستحيلةٍ مع سياسات واشنطن الراهنة، التي استبقت المفاوضات بتهديداتٍ غير مسبوقة كإرسال حاملة الطائرات النووية إلى المتوسط “يو إس إس هاريإس ترومان” ومجموعتها القتالية لطمأنة حلفائها في أوروبا الشرقية، إضافةً إلى تصريحاتٍ أوربيةٍ عالية النبرة تشير إلى نوايا تصعيديةٍ ضدّ موسكو تسبق المفاوضات، كدعوة القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي الجنرال “تود وولترز” إلى نشر وحداتٍ قتالية في رومانيا وبلغاريا، كردٍّ على نشر قوات روسية على حدود أوكرانيا، ومن جهةٍ أخرى إنّ مسألة تمرير اتفاقيات ضماناتٍ أمنيةٍ بين روسيا والناتو بهذا الشكل من الصعب تمريره في مؤسسات التشريع المعنية سيما مجلس الشيوخ الأميركي، لذلك من المتوقع أن تكون مناقشات الاستقرار الاستراتيجي بطابعها الأمني مطلع الـ (2022) محاولةً لتهدئة الوضع على الحدود الشرقية لأوروبا، ويبدو أنّ البند المتعلق بتعهد الولايات المتحدة بمنع امتداد الناتو شرقاً وعدم انضمام دول من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفيتي إلى الحلف، بالإضافة إلى عدم إنشاء قواعد عسكريةٍ في الجمهوريات السوفيتية السابقة غير المنتمية إلى الناتو، قابلاً للنقاش، ولكن يطرح بدوره تساؤلاً مقابلاً، ماهيّ مطالب الولايات المتحدة والناتو من روسيا في مقابل ذلك؟ ويبدو أنّ دائرة التفاوض الأميركيّ مع روسيا ستشمل في مقابل ذلك حثّ روسيا للصين للانضمام إلى مفاوضات الاستقرار الاستراتيجي العالمي، وقضايا شرق المتوسط وأمن الطاقة الأوربي والقطب الشمالي والأنشطة العسكرية في الفضاء في مقابل المسودة الروسية، ومع تدني سقف النتائج المتوقعة وفي حال فشل هذه المفاوضات الأمنية فإنّ المعضلة الأمنية (العالمية) ستتفاقم وقد تكون سبباً لأعمالٍ عسكريةٍ في هذه المنطقة الجيوسياسية البالغة التعقيد جيوبولتيكياً، ويبدو “ممر سوفالكي” على رأس الأولويات العسكرية لجميع الأطراف.