النضال اليائس في الداخل الأمريكي
ترجمة: هناء شروف
بعد عام تقريباً من فوز جو بايدن بفارق ضئيل في الانتخابات على دونالد ترامب، لا تزال الولايات المتحدة على حافة الهاوية. وهناك العديد من النتائج السياسية بدءاً من الإصلاح الاقتصادي والسياسي الذي يسعى إليه بايدن، وصولاً إلى نتائج الانتخابات التي رفضها ترامب في كانون الثاني الماضي، والذي لا يزال هو والحزب الجمهوري يشككون في نتائجها.
وليس من السهل تشخيص ما يزعج الولايات المتحدة، لكن هناك أموراً عدة أدت إلى اضطراب ويأس الداخل الأمريكي، أهمها الحروب الثقافية المستمرة التي تقسم الولايات المتحدة على أساس العرق والدين والعقيدة، وزيادة عدم المساواة في الثروة والسلطة إلى مستويات غير مسبوقة، والقوة العالمية المتضائلة للولايات المتحدة مع صعود الصين، وأخيراً الكوارث المتكررة للحروب التي تقودها الولايات المتحدة وأدّت إلى المعاناة والإحباط والارتباك الوطني.
وتلعب كل هذه العوامل دوراً في السياسة الأمريكية المضطربة، ومع ذلك فإن أعمق أزمة سياسية هي فشل المؤسسات السياسية الأمريكية في تعزيز الرفاهية العامة كما وعد دستور الولايات المتحدة. وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، أصبحت لعبة السياسة الأمريكية في الداخل تفضيل الجماعات ذات الثراء الفاحش والشركات الغنية على حساب الغالبية العظمى من المواطنين.
ومنذ ما يقرب من 2500 عام، لاحظ أرسطو أن الحكومة الجيدة يمكن أن تتحول إلى حكومة سيئة من خلال نظام دستوري معيب، ويمكن للجمهوريات التي تحكمها سيادة القانون أن تنحدر إلى حكم الغوغاء الشعبوي أو حكم الأوليغارشية من قبل طبقة صغيرة فاسدة. والحقيقة أن الولايات المتحدة تواجه مثل هذه الكوارث إذ لم يتمكّن النظام السياسي من فصل نفسه عن الفساد الهائل للضغط على الشركات وتمويل الحملات من قبل الأثرياء.
ومنذ السبعينيات اشتدت حرب الولايات المتحدة ضد الفقراء، ونُفذت بكفاءة وحشية على مدار الأربعين عاماً الماضية. لما يقرب من ثلاثة عقود منذ تنصيب الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1933، في خضم الكساد الكبير، إلى فترة روبرت كينيدي، وليندون جونسون (1961- 1968) كانت الولايات المتحدة عموماً على مسار التنمية نفسه مثل أوروبا الغربية بعد الحرب وأصبحت إلى حدّ ما ديمقراطية اجتماعية. كان عدم المساواة في الدخل آخذاً في الانخفاض، وانضمت المزيد من الفئات الاجتماعية وخاصة الأمريكيين من أصل أفريقي والنساء إلى التيار الرئيسي للحياة الاقتصادية والسياسية.
في عام 1971، وضع محامي الشركات لويس باول استراتيجية لعكس الاتجاهات الديمقراطية الاجتماعية نحو تنظيم بيئي أقوى وحقوق العمال وفرض ضرائب عادلة ومقاومة الأعمال التجارية الكبيرة، ثم رشح الرئيس ريتشارد نيكسون باول للمحكمة العليا الأمريكية عام 1971 وأدى اليمين الدستورية في أوائل العام التالي، مما مكنه من وضع خطته موضع التنفيذ، وحينها فتحت المحكمة أبوابها على مصراعيها أمام أموال الشركات. وعندما أصبح رونالد ريغان رئيساً في عام 1981 عزز هجوم المحكمة العليا على الرفاهية العامة من خلال خفض الضرائب للأثرياء، وشنّ هجوماً على العمل المنظم والتراجع عن تدابير حماية البيئة.
نتيجة لذلك تباعدت الولايات المتحدة عن أوروبا في أساسيات اللياقة الاقتصادية والرفاهية والسيطرة على البيئة، في حين استمرت أوروبا عموماً في السير على طريق الديمقراطية الاجتماعية والتنمية المستدامة وانطلقت الولايات المتحدة في طريق اتسم بالفساد السياسي والأوليغارشية والفجوة المتزايدة الاتساع بين الأغنياء والفقراء وازدراء البيئة ورفض تقييدها.
وباختصار، أصبحت الولايات المتحدة دولة الأغنياء والأثرياء دون أي مسؤولية سياسية عن الأضرار المناخية التي تلحقها ببقية العالم. كما أدت الانقسامات الاجتماعية إلى انتشار وباء اليأس بما في ذلك الجرعات الزائدة من المخدرات وحالات الانتحار وانخفاض متوسط العمر المتوقع وارتفاع معدلات الاكتئاب خاصة بين الشباب.
اليوم يكافح بايدن الرياح المعاكسة القوية، هذا هو الوضع الذي يحاول بايدن معالجته لكن نجاحاته حتى الآن محدودة وهشة. والحقيقة البسيطة هي أن جميع أعضاء الكونغرس الجمهوريين، ومجموعة صغيرة ولكنها حاسمة من الديمقراطيين وأشهرهم السيناتور جو مانشين من وست فرجينيا وكيرستن سينيما من أريزونا، عازمون على منع أي زيادة ذات مغزى في الضرائب على الشركات الغنية والأمريكية لخلق مجتمع أكثر عدلاً، كما أنهم يعرقلون اتخاذ إجراءات حاسمة بشأن تغيّر المناخ.
لقد أنهى بايدن عامه الأول في منصبه وما زال الأثرياء متمسكين بالسلطة، ولكن على الرغم من العقبات في كل اتجاه في زيادة الضرائب للأثرياء، وزيادة الإنفاق الاجتماعي، وحماية حقوق التصويت، وتعزيز حماية البيئة، لا يزال بإمكان بايدن تحقيق بعض المكاسب المتواضعة والبناء عليها في السنوات القادمة.
هناك احتمال حقيقي بأن نكسات بايدن في عام 2021 ستساعد الجمهوريين على الفوز بالسيطرة على أحد مجلسي الكونغرس أو كليهما في عام 2022، وهذا من شأنه أن يضع حداً للإصلاحات التشريعية حتى عام 2025 على الأقل، ويمكن أن يُنذر بعودة ترامب إلى السلطة في الانتخابات الرئاسية لعام 2024 وسط الفوضى الاجتماعية والعنف والدعاية الإعلامية وقمع الناخبين في الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون. وبالتالي الشيء الوحيد الذي سينتج عن حرب الحزبين في واشنطن هو المزيد من التوتر العالمي والمخاطر الجديدة للصراع.
هذه الاضطرابات لها تداعيات عالمية مقلقة، إذ لا تستطيع الولايات المتحدة أن تقود إصلاحات عالمية عندما لا تستطيع أن تحكم نفسها بشكل متماسك، خاصةً وأن هناك حالة من الفوضى الداخلية وعقوداً من الفساد السياسي والإهمال الاجتماعي تمهد لتوقعات محفوفة بالمخاطر لكل من الولايات المتحدة والعالم.