جريمة النقب.. ومهزلة “التحقيق العميق”!
أحمد حسن
يمكن القول إن أحد أهم أسباب وأهداف ما يحدث في المنطقة كلها منذ سنوات طوال هو تغييب فلسطين وقضيتها عن السمع والاهتمام، وإرجاعها إلى مراتب متأخرة على الأجندة العربية، الشعبية قبل الرسمية، للتمكن، بالتالي، من استكمال السيطرة الصهيونية عليها، ووأد فكرة المقاومة في قلوب أبنائها باعتبار أن العين لا تقاوم المخرز؛ لكنها ورغم “تراخي” بعض أبنائها كي لا نقول أكثر من ذلك، وغدر بعض أشقائها، وسطوة العدو وارتكازه على صمت دولي فاضح – تفاخر رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت أنه يتحدث للعديد من زعماء العالم ولا أحد يسأله عن القضية الفلسطينية – إلا أنها ترفض أن تغيب، وفي كل مرة يخرج فريق من أبناءها ليقول للعالم أجمع، بصورة أو بأخرى، إن قضيتنا لا يمكن أن تموت.
الصرخة هذه المرة جاءت من أبناء النقب – برمزية النقب المميزة – وهم يعيدون فتح ملف حرية فلسطين وحق شعبها بالحياة بين الأمم، ويفضحوا للعالم في الآن ذاته حقيقة “إسرائيل” وكذبة الدولة، “الواحة الديمقراطية”، التي ترفض بالمطلق ليس فقط المخرجات المخجلة والجائرة لما يشبه “العملية السياسية”، بل ترفض أيضاً وجود أي عربي ضمن أرض فلسطين التاريخية حتى لو كان ممن يشارك في “ديمقراطيتها” المزعومة انتخاباً وترشيحاً، أي من ظنوا أنفسهم مواطنين في دولة ديمقراطية على ما قيل لهم وصدقه بعضهم، وتسعى في كل سانحة لطرده من أرضه ومنحها لقطعان استيطانية أتت من أصقاع الأرض المختلفة لتنفذ مشروعاً احتلالياً يقتضي نجاحه شطب كلمة فلسطين والفلسطينيين من الجغرافيا والتاريخ والتداول والذاكرة، لكنه لا يتجاوز، في وظيفته الحقيقية، كونه “مخفراً متقدماً” للمشروع الغربي الاستعماري الأم.
والحال فإن صرخة النقب حصلت على خلفية الاستيطان اللاشرعي، وبالطبع كان الرد الديمقراطي الإسرائيلي بالقتل، كالعادة، لكن هذه المرة كانت الضحية فلسطينيا –أمريكيا يبلغ من العمر (80) عاماً، الأمر الذي وضع الداعم الأمريكي الأعمى في مأزق صورته “الإنسانية” أمام العالم، لكنه وكعادته مع “إسرائيل”، الابن المدلل، اكتفى بمطالبة القاتل ذاته بـ “تحقيق “عميق” بأسباب الوفاة، ولا حاجة للقول ماذا كان سيحصل فيما لو كان الأمر معكوساً، أي قتل الرجل بأيد عربية، فحينها ستخرج كل أركان الامبراطورية ومعها منظمات حقوق الإنسان، وأتباعهم العرب، للمطالبة بتحقيق مستقل ومحكمة دولية مستقلة وعقوبات وما إلى ذلك.
بهذا المعنى، تبدو قصة “التحقيق العميق” الأمريكية مجرد هدر آخر لدماء الضحية، فـ “التحقيق العميق” أثبت سابقاً أن إسرائيل قتلت وبدم بارد بحارة السفينة الأمريكية “ليبرتي”، والنتيجة .. المزيد من دعم القاتل، واعتراف القاتل متباهياً بجريمته في حالة “أسطول الحرية” لم يترك أي مكان لتحقيق عميق، حين أعلن غابي أشكنازي علناً أن جنوده “قتلوا من يجب عليهم قتله” – وأغلبهم غربيون وأتراك – وأنهم “أطلقوا النار عن قرب”، في “عملية كانت محسوبة ومبررة”، والنتيجة أيضاً.. لا شيء، وفي السياق ذاته تندرج قصة قتل الأمريكية راشيل كوري التي لم تحتج لتحقيق عميق أو سطحي لأنها قُتلت، وبدم بارد أيضاً، على الهواء مباشرة، والنتيجة أيضاً لا شيء، وتلك هي، بالمقارنة والدروس السابقة، نتيجة التحقيق العميق الجديد.
خلاصة القول، القرار الاسرائيلي واضح وجلي لكل من يريد أن يسمع: لا دولة فلسطينية قابلة للحياة، لا وجود لشعب فلسطيني، وإنما في أحسن الأحوال مجرد كانتونات مغلقة وجزر منفصلة، بعضها يعيش فيها “الأخيار” من “عرب إسرائيل” لكن بانتظار للحظة الطرد القادمة، وبعضها يعيش فيها “الأشرار الذين يجب قتلهم مثل الدودة أو الثعبان” كما قال أحد كهنتهم الكبار، وبالتالي فإن الفلسطينيين جميعاً في مركب واحد وكلهم أشرار في نظر “إسرائيل” فهل تكون النقب، ودون الحاجة لـ “تحقيق عميق” فاتحة فهم فلسطيني وعربي شامل ونهائي لهذه الحقيقة؟!!.